fbpx

الكتابة السياسية

في الغرب الأوروبي – الأميركي  يتم النظر للنص السياسي من خلال كونه مبنى يضم طوابق عدة هي التالية: 1- منهج التحليل. 2- المعلومات المستخدمة في التحليل. 3- الأفكار المستخلصة من خلال استخدام المنهج والمعلومات. 4- قدرة النص، من خلال استخلاصاته، على الوصول إلى حدود  القبض المعرفي على الوقائع القائمة. 5- قدرة النص على تلمس الوقائع القادمة. هذه النظرة مبنية على أن السياسة هي ” مملكة الأفعال الموضوعية „، أي هي تعامل مع وقائع موضوعية خارجية بالنسبة للذات السياسية حيث مهمة الأخيرة الفعل السياسي من خلال ممكنات الموضوع السياسي حسب التوازنات القائمة وليس حسب الرغبات أو الإرادات. هي مبنية ايضاً على أساس أن هناك وقائع FACTS تتحول إلى حقائق REALITY عندما تستطيع الذات السياسية تحويل الوقائع إلى حقائق سياسية منجزة وقائمة من خلال أفعال واشتغالات الذات لتحقيق الأهداف من خلال توازنات الوقائع. النصوص السياسية في الغرب هكذا عند اليمين واليسار، ومن هو متآلف مع الصحافة الغربية يلمس ذلك. عند الماركسيين الشيوعيين، ومن تفرع من الماركسية مثل الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، وعند الليبراليين وعند قوى اليمين الأقصى هناك اجماع ضمني على ما قاله ماركس بأن الأفكار والمبادئ تقاس بقوة حامليها، وليس ب ” الحق „، وعلى ماقالته البراغماتية بأنها تقاس بنتائجها وليس بمضامينها. لا أحد يخالف من هذه الاتجاهات المذكورة قول دينغ سياو بينغ، الزعيم الشيوعي الصيني (1978-1997): ” ليس المهم لون القطط، المهم أنها تأكل الفئران ” ، وهم أيضاً لا يخالفون عبارة مكيا فللي : ” الغاية تبرر الوسيلة ” ، ولو أنهم يتجنبون الإقرار بذلك علناً. هذا الإجماع الغربي عند الاتجاهات السياسية المختلفة، و المتصارعة، مبني على أن السياسة هي لعبة توازن قوى والصراع يجري عبر هذا التوازن من أجل تحقيق المبادئ السياسية والأهداف وفق المصالح المختلفة لأطراف الصراع، وليست هي لعبة بين (الحق ) و(الباطل) وأن الأول ” يتغلب “عبر “الحجة” و”العقل”، فيما ينتصر الثاني إن لم تكن تلك “الوسيلتين” ممتلكة من ” أصحاب الحق “. منذ عام 1651 قال توماس هوبس في كتابه: “الليفياثان” LEVIATHAN، العبارة التالية: “الانسان ذئب” ومن أجل أن “لا يأكل الجميع هناك حاجة إلى حصر امتلاك القوة بيد الدولة لتطبيق القانون „. اليسار واليمين الغربيين يجمعان على ما قاله هوبس. النظام الديمقراطي أنبنى على ذلك بما فيها تلك النظرة للإنسان وليس تلك النظرة المقدمة في كتاب ” العقد الاجتماعي ” لجان جاك روسو بأن ” الإنسان خيًر بالفطرة…والشرور تكتسب من المحيط “. لا يخالف الماركسيون هوبس في ذلك، بل يرون إضافة لذلك بأن الخير نسبي بالقياس للزمان والمكان وكذلك الشر وليسا فوق الوقائع. يمكن لعبارة ستالين التي قالها في شباط 1945 أثناء مؤتمر يالطا لما أخبره تشرشل بأن بابا الفاتيكان قد أعلن الحرب على هتلر أن تلخص كل ما سبق:” كم دبابة عند البابا؟“. دولة الفاتيكان لها عدد من السكان لا يتجاوز 826 شخصاً. يمكن فهم عبارة ستالين الساخرة من خلال الماركسية، ولكن هؤلاء يديرون ويسيطرون روحياً على مليار و300 مليون نسمة (أرقام الفاتيكان عام 2016) وهناك سيطرات للفاتيكان عبر الكنيسة الكاثوليكية في التعليم والخدمات الاجتماعية وأحياناً عبر الأحزاب الديمقراطية المسيحية. يمكن للبعض أن يعتبر أن عبارة ستالين تجانب الوقائع، ولكن أليست قوة الكاثوليكية في الاجتماع، أو في السياسة كما في بولندا 1980- 1989 عندما كان بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني، وهو بولندي الأصل، موجهاً لحركة التضامن التي أسقطت الحكم الشيوعي في وارسو، هي تطبيق لقول ماركس: „الأفكار تتحول إلى قوة مادية  من خلال قوة حاملها الاجتماعي” ؟….. في الكتابات السياسية العربية لا نجد كل ما سبق إلا فيما ندر أو عند القلة من الكتاب السياسيين العرب، بل نجد نظرات إما أخلاقية للسياسة تعتبرها ميداناً ل ” النزال ” بين (الحق) والباطل)، أو نظرة ثقافية للسياسة تعتبر العمل السياسي محاولة للتطبيق العملي لأفكار سياسية- ثقافية وجسراً أو عربة لنقلها إلى وقائع عملية. أصحاب النظرة الأخلاقية لا يستطيعون القبض المعرفي على واقعة قيام دولة اسرائيل وتفسيرها، ولا يستطيعون تفسير تأييد العالم في لندن وباريس وواشنطن وموسكو لقيام تلك الدولة عام 1948 التي أتت ليس فقط على السكوت وإنما على التأييد العلني لأن يأتي يهودي من وارسو وبوينس آيرس ومن جوهانسبورغ  وطهران ليستوطن في فلسطين ويطرد الفلسطيني من بيته وأرضه الساكن بها منذ آلاف السنين . أصحاب هذه النظرة الأخلاقية لا يستطيعون تفسير واقعة أنه لم ينبس أحد ببنت شفة في كل العالم الغربي ضد عبارة أفيغدور ليبرمان،القادم من مولدافيا،الموجهة في إحدى جلسات الكنيست النائب أحمد الطيبي المنحدر من عائلة ضاربة الجذور في مدينة الطيبة الفلسطينية:”اخرج من وطني” . يمكن هنا أن يقول أصحاب هذه النظرة الأخلاقية بأن العالم شرير ومتواطئ مع الصهاينة ونحن العرب ضحايا لتلك المؤامرة الشريرة . تتداخل النظرة الأخلاقية مع نظرية المؤامرة في السياسة ، وليس من الصدف بسبب ذلك أن لاقى كتاب”بروتوكولات حكماء صهيون” كل ذلك الرواج عند العرب ، ونظرية المؤامرة مثل الدواء المسكن للألم ولكنها لاتساعد على تشخيص المرض ولاعلى العلاج ، وأحياناً تلك النظرية يمكن أن تحمل صاحبها إلى مناحي خطرة لما تدفعه للاقتناع بأنه ليس من علة عنده وأنه ” النقاء الكامل “المغزو من قبل قوى ” الشر “. مؤخراً ضجت الكثير من  الصحف العربية والفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي استنكاراً للنظرة التي قالها دونالد ترامب بأنها تحكم رؤيته لقضية خاشقجي والمؤلفة من أربع زوايا للنظر:”1- صفقات السلاح الأميركية مع السعودية ومختلف العقود المبرمة معها،2- الحفاظ على استقرار أسعار النفط،3- مجابهة ايران،4- اسرائيل . ” . هؤلاء يظنون بأن القضية جنائية محضة أوقانونية بحتة ، تتعلق بمقتل صحفي سعودي معارض ، بينما هي قضية سياسية أوتم وضعها في عربة السياسة عند المعادون للرياض في أنقرة والدوحة أوعند المؤيدين للسعودية مثل ترامب أوحتى عند بعض أعضاء الكونغرس الأميركي الذين أرادوا استغلال القضية ضد إدارة ترامب ، فيما استغلتها لندن من أجل تعويم دورها في المسألة اليمنية عبر الاقتراج الجديد لمحادثات يمنية – يمنية في العاصمة السويدية . عند أصحاب النظرة الثقافية للسياسة هناك عماء أكبر عن رؤية الوقائع وهي نظرة أكثر ما توجد عند مثقفين وأدباء، يظنون أن السياسة هي شبيهة بنظرية أرسطو حول الدراما ولكن بدل ” صراع  (الخير)و(الشر) ” يضعون (العقل والمنطق) في مواجهة (اللاعقل واللامنطق) ، كما توجد أيضاً عند أكاديميي كليات العلوم السياسية وعلم الاجتماع ، وكتابات هؤلاء تعالج الفكرة بالفكرة وليس عبر الوقائع ، ويمكن لنص سياسي من ألف كلمة عند هؤلاء أن لايحوي أي اسم أو واقعة أو تاريخ أو رقم ، وهو نص رغبوي ومليء بعبارات وكلمات: (إني أعتقد،إني أرى، التنوير،النخب،الظلاميون،الجهل والعلم،الدهماء ،الرعاع،القطيع…إلخ). في اللغة العربية يوجد ، إضافة لـ غوغل كمحرك بحث  عن النصوص ، موقع ” الحوار المتمدن ” حيث توضع في مواقع فرعية ، خاصة بكل كاتب ، نصوص  الكاتب المعني خلال خمسة عشرة سنة مضت مؤرخة وكاملة كما نشرت في الصحافة العربية أوفي الموقع المذكور يومذاك : ألايمكن عبر تلك المواقع الفرعية اكتشاف مدى انطباق تلك الطوابق الخمسة لمبنى النص السياسي على نصوص الكتاب السياسيين العرب،أم عدم ذلك الانطباق؟….. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى