fbpx

مراجعة لكتاب سيكولوجيا الجماهير

يهدف علم الجماهير أو علم النفس الجماعي الذي أسسه الفرنسي غوستاف لو بون في كتابه الشهير ” سيكولوجيا الجماهير” إلى معرفة كيفية سيطرة القادة على الجماهير.

لم يكن غوستاف لوبون الموسوعي الذي ولد عام 1841 في منطقة النورماندي بفرنسا، وبدأ حياته كطبيب لم يكن معترفاً به كأستاذ أكاديمي في الجامعات الفرنسية، رغم محاولاته العديدة، إلا أنه بعد تأليفه هذا الكتاب أصبح الأستاذ الفكري لمرحلة كاملة، ومقصد الكثير من الأكاديميين والسياسيين.

ويُعتبر كتابه هذا الأشهر ضمن مؤلفاته التي تزيد عن خمسين كتاباً، والجميع متفقون على أن كتاب سيكيولوجيا الجماهير، ومجمل أعمال غوستاف لوبون تشكل نجاحاً منقطع النظير في المكتبات، وأنها إحدى أكبر النجاحات العلمية في كل العصور.  وهذا الكتاب هو المانيفست الذي دشن ما يُسمى اليوم علم النفس الاجتماعي أو الجماعي، حسبما يقول سيرج موسوفيتشي، أحد كبار علمار علم النفس الاجتماعي اليوم.

تنويم مغناطيسي

ما هو الجمهور؟ كان لوبون يرى أن الميزة الأساسية للجمهور هي انصهار افراده في روح واحدة، وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية وتخفض من مستوى الملكات العقلية، وهذا الجمهور يمكن تنويمه مغناطيسيا، وهذه العملية بالذات يبدو ان لوبون استعارها من دراسته وعمله في المجال الطبي، حيث رأى أن الفرد المنخرط مع الجمهور ينتابه تغييرات تشبه تماماً التغييرات التي يتعرض لها من وقع عليه تنويم مغناطيسي، لجهة غياب التفكير وعدم القدرة على السيطرة على المشاعر.

الكتاب الأول

لوبون قسم مؤلفه إلى ثلاثة فصول سمى كل فصل كتاباً، رغم ان الكتاب بأكمله لا يتجاوز المئتي صفحة، بكل الأحوال في الكتاب الأول درس روح الجماهير، وخصائصها والقانون النفسي لوحدتها الذهنية، وفيها رأى أن خصائص الفرد المنخرط مع الجمهور: هي تلاشي الشخصية الواعية وهيمنة الشخصية الغير واعية، وتوجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، والميل لتحويل الأفكار المحرَّض عليها إلى سلوك، وهكذا لا يعود الفرد هو نفسه، إنما يصبح عبارة عن إنسان آلي ما عادت إرادته قادرة على قيادته.

غوستاف يرى أن الجمهور دائماً في أدنى رتبة من الإنسان المفرد، فيما يخص الناحية الفكرية والعقلية.

صفات الجماهير

الفصل الثاني من هذا الكتاب تناول عواطف الجماهير وأخلاقيتها، وهنا يُفصل أكثر في صفات هذه الجماهير، فهي: 1- سريعة الانفعال وخفيفة ونزقة، والانفعالات التحريضية التي تخضع لها الجماهير قد تكون كريمة أو مجرمة، بطولية أو مجرمة، حسب نوع التحريض الذي تتعرض له الجماهير، وهذا التحريض قد يكون أقوى من غريزة البقاء نفسها، بحيث يقدم المحرَّضُ روحه في لحظة تأثر ما.2- الجماهير سريعة التأثر وساذجة وتصدق أيَّ شيء، وفي هذا اللحظات يمكن انتشار الأساطير، وهذا الفعل ليس ناتجاً عن سرعة كاملة في التصديق، وإنما عن تشويه وتضخيم هائل للأحداث في ذهنية الأفراد المحتشدين،” ينتج عن كل ما قلناه سابقاً بأنه ينبغي ان نعتبر كتب التاريخ بمثابة كتب الخيال الصرف. فهي عبارة عن حكايات وهمية عن وقائع لوحظت بشكل رديئ، كما أنها مصحوبة بتأويلات شُكلت فيما بعد”. 3- عواطف الجماهير ضخمة وبسيطة في ذات الوقت. بمعنى أن الفرد المنخرط في الجمهور يقترب كثيراً من الكائنات البدائية، لأنه غير قادر على رؤية الفروقات الدقيقة بين الأشياء، وبالتالي فهو ينظر للأمور ككتلة واحدة، ولا يعرف التدرجات الانتقالية.

هذه الجماهير لا يمكن السيطرة عليها إلا بواسطة العواطف المتطرفة، فالخطباء يستخدمون دائماً الشعارات العنيفة. 4- الجماهير متعصبة ومستبدة وهي تميل نحو المحافظة. 5- أخلاقية الجماهير، فالأخيرة صاحبة نزوات وغرائز شديدة الهيجان، وبالتالي هي غير مهيأة لاحترام النزعة الأخلاقية، ولكنها بذات الوقت قادرة على امتثال أرفع أنواع الأخلاق كالتفاني والإخلاص والنزاهة والتضحية.

الفصل الثالث تناول أفكار الجماهير ومحاجّتها، ومخيلتها.

في الأفكار يميز لو بون بين نوعين من الأفكار، الأفكار الآنية الطارئة والتي تتشكل تحت تأثير اللحظة، والأفكار الثابتة الأساسية والتي تقدم لها البيئة والوراثة والرأي العام استقراراً كبيراً.

أما المحاجّات العقلية فهي حسب لو بون غير ذات أهمية عند الجماهير، ” لا يمكننا القول بشكل مطلق أنه يمكن التأثير على الجماهير بواسطة المحاجات العقلية، ولكن الحجج التي تستخدمها وتلك التي تؤثر عليها تبدو من وجهة النظر المنطقية جداً متدنية إلى حد لا يمكننا وصفها بالعقلانية إلا عن طريق القياس والتشبيه”.

لوبون يرى أن عجز الجماهير عن التفكير المتعقل يحرمها من كل روح نقدية، والقدرة على التمييز بين الحقيقة والخطأ، وبالتالي عدم تشكيل حكم دقيق على الأمور.

بالنسبة لمخيلة الجماهير فهي تتأثر أيما تأثير بالصور، ولهذا السبب فإن التمثيليات المسرحية التي تقدم الصور بصيغتها الأكثر وضوحاً لها دائماً تأثير ضخم على مخيلة الجماهير، ولهذا اعتبر القادة التاريخيون أن مخيلة الجماهير أهم داعم لهم، فينقل عن نابليون قوله إنه لم يستطع حكم مصر لو لم يدعِ أنه مسلم تقي، وادعى أنه بابوي متطرف كي يكسب ثقة الكهنة في إيطاليا.

الفصل الرابع من هذا الكتاب يتحدث عن الأشكال الدينية التي تتخذها كل قناعات الجماهير.. فالأخيرة تتبنى الأفكار دفعة واحدة أو ترفضها دفعة واحدة، وقناعات الجماهير سواء في الفترات التي ساد فيها الفكر الديني أو حتى الفكر العلماني هي قناعات لا يمكن وصفها إلا أنها مبنية على العاطفة الدينية.

وهذه العاطفة خصائص حسب لوبون: عبادة إنسان يعتبر خارقاً للعادة، والخوف من القوة التي تعزى إليه، وبالتالي الخضوع الأعمى لأوامره، والرغبة بنشر أفكاره، واعتبار كل من يرفضونها بمثابة الأعداء.

الكتاب الثاني آراء الجماهير وعقائدها

في الفصل الأول من هذا الكتاب يدرس الباحث العوامل البعيدة المشكِّلة لعقائد الجماهير وآرائها، هناك حسب لوبون خمسة عوامل:

 1- العرق: وقوته كبيرة إلى درجة أنه لا يمكن لعنصر أن ينتقل من أي شعب إلى آخر دون أن يتعرض للمتغيرات الأكثر عمقاً، ولهذا السبب فإن العديد من البلدان المختلفة تجسد في عقائدها وسلوكها اختلافات متمايزة وقوية جداً، ولا يمكن التأثير عليها بذات الطريقة.

  2- التقاليد الموروثة: وهي تمثل الأفكار والحاجيات والعواطف الخاصة بالماضي، وتمثل خلاصة العرق، وتضغط علينا بكل ثقلها.

3- الزمن: هو الذي يطبخ آراء وأفكار الجماهير على ناره الهادئة، ويهيئ الأرضية التي ستنشأ عليها وتتبرعم.

4- المؤسسات السياسية والاجتماعية: فالشعب لا يختار مؤسساته، مثلما لا يختار لون عينيه أو شعره، فالمؤسسات والحكومات تمثل منتوج العرق.

5- التعليم والتربية: هو الأساس في تحسين وضع البشر وجعلهم متساوين.

الفصل الثاني العوامل المباشرة التي تساهم في تشكل آراء الجماهير: 1- الصور والكلمات والعبارات: إذا لم يكن يوجد صور فيمكن اللعب على وتر الكلمات، فإذا ما تم استخدامها بشكل صحيح تفعل فعل السحر بالإنسان، فالعقل والمحاجات العقلية لا يمكن أن تقاوم بعض الكلمات والصياغات التعبيرية. 2- الأوهام ويقول إنه في الماضي كانت الناس تعتمد على الأوهام المستمدة من الدين أما في الوقت الحال، فالأوهام مستمدة من نظريات فلاسفة عصر النهضة. 3- التجربة: تمثل المنهجية الوحيدة الفعالة القادرة على زرع حقيقة ما في روح الجماهير بشكل راسخ، وتدمير الأوهام التي أصبحت خطرة أكثر مما ينبغي. 4- العقل: والباحث هنا يتناول العقل من الناحية السلبية، وليس الإيجابية، فالجماهير لا تتأثر بالمحاجة العقلية، مخاطبو الجماهير لا يتوجهون إلى عقولهم، بل إلى عاطفتهم.

الفصل الثالث في هذا الكتاب: محركو الجماهير ووسائل الإقناع التي يمتلكونها، ويتناول هنا محركي الجماهير الذين يعتمدون على العاطفة لتحريك الجماهير، وهم ليسوا رجال فكر، بل رجال ممارسة وانخراط.

محركو الجماهير يعتمدون كثيراً على تأكيد أفكارهم، وتكرارها، وهي بعد ذلك تنتقل بالعدوى. وهنا يلعب ” الهيبة الشخصية دوراً كبيراً، والهيبة هي عبارة عن نوع من الجاذبية التي يمارسها فرد ما على روحنا، أو عقيدة ما أو عمل أدبي ما، وهذه الجاذبية الساحرة تشل كل ملكاتنا النقدية، وتملأ روحنا بالدهشة والاحترام.

الفصل الرابع محدودية تغير كل من عقائد الجماهير وآرائها، فالعقائد الثابتة يحتاج تغييرها لقرون وترتكز عليها حضارة بأكملها، فيما آراء الجماهير متحركة وتتغير بسرعة، وهي الآراء حول مجريات الحياة اليومية.

الكتاب الثالث تصنيف الفئات المختلفة من الجماهير ودراستها.

وهنا يقسم الجماهير إلى فئات متجانسة، وغير متجانسة.

لو بدأنا من الأخيرة فهناك جماهير مغفلة كجماهير الشارع، وجماهير غير مغفلة كهيئات المحلفين والبرلمانات، والجماهير المتجانسة فهي الطوائف السياسية والدينية والزمر العسكرية والكهنوتية، والطبقات الاجتماعية والعمالية.

الفصل الثاني في هذا الكتاب يتناول الجماهير المدعوة بالمجرمة،” ما أن تسقط الجماهير بفعل الهيجان والحماسة، حتى يصبح صعباً علينا وصفها بالمجرمة، ” ولكني مع ذلك احتفظت بهذا الوصف الخاطئ لأنه كان قد ترسح من قبل في البحوث النفسية”.

الفصل الثالث يتناول محلفي محكمة الجنايات، والفصل الرابع الجماهير الانتخابية، والفصل الخامس المجالس النيابية.

لا بد أن أشير في النهاية إلى أن استنتاجات الكاتب في كثير منها كانت تنطبق على الشعوب الأوروبية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولكن مع تكريس الحرية الفردية، والفردانية الشخصية في أوروبا وأمريكا نلاحظ غياباً للقائد الملهم، بينما هو لا يزال موجوداً بقوة في مجتمعاتنا، فكل طائفة أو عرق أوفئة تتخذ لنفسها قائداً وتسبغ عليه كثيراً من الصفات التي ذكرها الكاتب في هذا الكتاب.

 

هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.

حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©

Read More

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى