fbpx

تركيا بين أردوغان وأتاتورك، تكامل أم صراع؟

الكاتب: أحمد العبد الله لم يكن عبثاً اختيار أردوغان البرلمان القديم ليحيي الذكرى الثانية لفشل الانقلاب التركي ضده عام 2016، إذ شهد هذا البرلمان تأسيس الدولة التركية الحديثة على يد المؤسس الأول لتركيا الحديثة، كمال أتاتورك، ولم يسبق لأحد أن اعتلى هذا المنبر بعد رحيل أتاتورك، إذ كما أعلن أتاتورك آنذاك تأسيس الدولة التركية، ها هو رجب طيب أردوغان، يعلن تأسيس “تركيا الحديثة”، فهل تركيا أردوغان هي تركيا أتاتورك نفسها حقاً؟ وهل يأتي مسار الرجل القادم من خلفية دينية لا يخفيها، ليكمل مسار الرجل الذي وقف ضد تدخل الدين في الحياة السياسية؟ ولم اختار أردوغان القيام بهذه الخطوة؟ هل هي تكريم للمؤسس أم حنكة سياسي يعرف كيف يرضي خصومه حتى وهو يوجه السهام إلى قلوبهم؟ أول الرسائل التي أراد أردوغان تمريرها من خطوته تلك القول للجميع وبخاصة الداخل التركي أنه زعيم لا يقل أهمية عن أتاتورك، فإذا كان الأخير أسس الدولة، فها هو يبنيها ويطورها ويفتح لها الآفاق، وها هو يقف حيث وقف المؤسس ليعلن جملة من القرارات والرؤى والتصورات لما يجب أن تكون عليه تركيا، أي إن الرجل مصمم على أن يكون المؤسس الحقيقي للدولة التركية، وهو بهذه الخطوة، يسعى لطمس اسم أتاتورك تدريجاً. ولكن هنا يبرز سؤال: كيف يمكن للرجل أن يطمس اسم أتاتورك بينما هو يذكر الناس به من خلال اعتلاء منبره؟ من يدقق في تاريخ أردوغان، يدرك جيداً أن مساره السياسي قائم على الاحتواء والمداورة إلى حين التمكن، إذ إن صدامه الأول مع العسكر التركي الذي أدى إلى سجنه علمه الدرس الأول في السياسة، وهو ألّا تصارع من هو أقوى منك، وإذا أردت الربح فعليك أن تصبح أقوى منه وحينها يمكن أن تواجهه، وعليه ينبغي العمل في ظله حتى تتمكن من كسره. وهذا ما يسعى إليه أردوغان إذ بعد فشل تيار نجم الدين أربكان الذي كان أردوغان وغول جزءاً منه، أدرك الأول ضرورة عدم استفزاز من يملك مكامن القوة إلى حين امتلاكها، ولهذا دخل الدولة التركية وآمن بعلمانيتها (ولو شكلاً) وبدأ عمليات الجرف إلى أن وصل إلى ما وصل إليه اليوم. ولربط هذا الكلام بفكرتنا حول اختيار أردوغان منبر أتاتورك، نقول إن أردوغان يدرك جيداً أن مئة سنة من وجود أتاتورك في أذهان الأتراك يصعب إنهاؤها في سنوات قليلة، فأتاتورك رجل متجذر في عمق الدولة التركية وفي أذهان الأتراك، ولذا تصعب المواجهة معه اليوم واقتلاعه، والحل الأفضل هو استثماره إلى حين حلول اللحظة التي تمكن أردوغان من نسفه ونسف مشروعه، حتى من دون أن يعلن ذلك بالضرورة، فأردوغان رجل عملي في نهاية المطاف تهمه الإنجازات لا الشعارات، ولهذا لا مشكل لديه أن يقف تحت طيف غريمه الفكري أتاتورك ما دام يحقق ما يريد، علماً أن الرجل يأمل في أن يكون عام 2023 قد تمكن من التخلص من هذا الطيف المزعج. نقطة أخرى، قد تكون مفيدة هنا، وهي أنه على الرغم من تباعد الرجلين أيديولوجياً، إلا أن ثمة ما يجمع بينهما، ألا وهو أن الرجلين في نهاية المطاف يعملان لأجل تركيا قوية، فأتاتورك انتزع تركيا التي نعرفها اليوم من براثن الدول التي كانت تتصارع على تركة الرجل المريض، ويسعى أردوغان اليوم لتحقيق الأمر ذاته عبر جعل تركيا في مصاف الدول الأولى عالمياً، سواء على الصعيد السياسي أم الاقتصادي، ولهذا يعمل أردوغان على استثمار الرصيد الأتاتوركي ليضمه إلى رصيده، باعتباره مؤسساً قادراً على تحقيق أكثر مما حققه المؤسس الأول، ولهذا توعد في خطابه أن يجعل من الاقتصاد التركي ضمن أقوى 10 اقتصادات في العالم، فهل ينجح في ذلك؟ لكن يبقى السؤال: هل يمكن للرجلين أن يتعايشا حقاً في المدى الطويل؟ وهل يسعى أردوغان لإزالة كل أثر لأتاتورك من الدولة التركية الحديثة؟ ونعني بذلك المكتسبات الحداثية التي حققها أتاتورك سياسياً واجتماعياً، وبخاصة في ما يتعلق بالعلاقة بين الدين والسياسة من جهة وحقوق المرأة وحضور الدين في الحياة العامة من جهة أخرى؟ وهل ينجح في تحقيق ذلك؟ لا شك في أن المشروع الأردوغاني والمشروع الأتاتوركي يتقاطعان في بعض النواحي التي تحدثنا عنها أعلاه، إلا أنهما يختلفان في الآليات التي تؤدي إلى تحقيق كل منهما لهدفه، إذ كان أتاتورك يرى أن الحداثة الغربية والتقارب مع الغرب هي العنوان الرئيس لتحقيق حداثة تركيا وتقدمها، في حين يرى أردوغان أن العودة إلى الجذور واستعادة الماضي العثماني هي ما يحقق النهضة، ولهذا يدعو إلى إعادة النظر في اتفاقية لوزان والعودة إلى حدود الإمبراطورية العثمانية وتفعيل العلاقة مع الجوار العربي والإسلامي، سلماً أو حرباً، ما يعني أننا قبالة مشروعين متناقضين في الجوهر، وإن كان الاثنان يهدفان إلى تحقيق نهضة تركيا، فالأول يرى النهضة في تمثل قيم العصر، فيما يراها الثاني في الماضي العثماني المترافق مع قيم الإسلام، الأمر الذي يعني أن أردوغان سيعمل على نسف الأسس التي بناها المؤسس الأول ليضع بدلاً منها أسسه، لأنه يرى أن مشروعه يتطلبها، ويعني أن نقطة الافتراق بين أتاتورك وأدروغان آتية من دون ريب، ويكفي أن نقرأ ما كتبه “حمزة تكين” في وكالة الأنباء التركية، حتى ندرك ذلك، إذ علق على خطاب أردوغان في البرلمان القديم، بالقول: “ومن على منبر أتاتورك، وفي الذكرى الثانية لإفشال الانقلاب نقول للجميع: ها قد عدنا من جديد نحمل إرث الماضي القديم الذي حافظ على وحدة تركيا، ونحمل إرث الماضي الأقدم الذي وحّد الأمة، ولكن هذه المرة بنفس حديث ونكهة أحدث ونظرة أوسع… وما توفيقي إلا بالله”. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى