fbpx

يقينُ الماضي ووطأةُ المستقبل

ينبغي قبل أن أُوغِلَ في وصف هذه المحنة الإيديولوجية، التي تعاني منها الغالبية الساحقة من بلداننا الشرق أوسطية المحكومة بفوات تاريخي مزمن ومستعصٍ، ينبغي أن أقارب موضوع صلتها الوثيقة بالزمن، من حيث هو أحد أضلاع الحضارة الإنسانية وشروطها الموضوعية، على مدار التاريخ الماضي والحاضر والمستقبل. هذه المقاربة هي أقرب إلى الطبيعة السيكولوجية منها الى الطبيعة العقلية المعرفية الصرف، المستنتِجة والمحاكمِة. وهذا سوف يوجب بالضرورة، محاولة مقاربة الأفكار من خلال تقسيم طبيعي للذاكرة الإنسانية. فالذاكرة الإنسانية التي يحتفظ بها كل امرئ منا، تسير في سياقين مختلفين؛ الأول: سوف أدعوه “الذاكرة الإجرائية”، والثاني: سوف أدعوه “الذاكرة النمطية”. الذاكرة الإجرائية، مثلها كمثل أيّ عضوٍ بيولوجي في الجسم الإنساني: محايدة، ومؤقتة، ومشاركتُها آليةُ العضوية، كما أنها مرتبطة بالحاجة المباشرة إليها. يستحضرها المرء كما يدعو خادمه، فتؤدي الغرض المطلوب منها، ثم تنسحب بصمت. (كأن تتذكر عنوان منزلك في عودتك، وأن تتذكر بأن مفتاحه تحتفظ به في جيبك؛ كمثال). لا رأي للذاكرة الإجرائية ولا مشاعر ولا انطباعات، فهي أقرب شبهاً بالمفكرة الشخصية أو المدونة أو الأجندة. وبتشبيه أشدُّ وضوحاً، هي كضوء بيل البطارية الهادي في ظلام العتمة، فهي آلة من آلات العضوية، وليست أكثر. أما الذاكرة الأخرى، النمطية، فهي مختلفة إلى حدود التناقض التام مع الذاكرة الأولى. إنها الذاكرة المشرعة الأنوار على التجارب الشخصية والجماعية، والمشبعة بالزهو والأمل، والانكسارات والخيبات، والشعور المباشر بالذات والهوية. وهي المحمّلة بكل ما تراكم وتمَّ التعرف عليه من ماضي الإنسان الفرد، وماضي الجماعة الإنسانية الشامل، مع طغيان شعور مستبدٍ غالب، بالرضى والفخر الشخصي والجمعي. إنها المعرفة الشاملة للذات وللجماعة، والفكرة المسبقة المحققة للهوية، وهي العقدة الرابطة للانتماء للمجموع، والفاعل الأساسي في مواجهة الوجود والواقع، في محاولة خلق التوازن معه.. هي فاعلة ومنفعلة في الوقت ذاته، وهي منحازة وغير محايدة بالضرورة. هذا التقسيم سوف يملي علينا نتيجة حتمية، هي أن الذاكرة تتعامل في وقت واحد مع زمنين: الماضي والمستقبل. فالحاضر عادةً ما يتمُّ التعامل معه باستخفاف واعتباطية، من حيث الإحساس به، ككمية زائلة وقيمة عابرة ومؤقتة، وآلة وصل بين تِخمَي الزمان؛ الماضي الذي نعرفه، والذي تخلى لنا عن كل ممتلكاته، وسجلها ملكية شخصية باسمنا، ثم انسحب راضياً، فأصبح كلُّ ما كان يحوزُه مسجلاً كملكية خاصة لنا. والمستقبل الذي لا نعرفه، والذي يَعِدُ ويُمَنِّي، ولكنه لم يهبْ لنا شيئاً بعدُ حتى الآن مما يَعِدُ ويملِك، وإن كان يُرهِصُ بالأماني والوعود، كما تحدثنا مشاعرنا وتؤكد بعزم وجراءة، على أننا سوف نمتلكه حتماً، كتوأمه المنسحب المنصرم، الماضي. الحاضر إذن، وكما نظن به ظنوناً واستشعاراً حدسياً، لا يكاد يرتقي إلى رتبة الماضي والمستقبل، وحضورهما الدائم والمتعاظم، بوصفهما القوة، أو الطاقة التي ترسم لنا، وبصورة نهائية، مجال الرحلة. وتصنع اتجاهها ومسارها، وهي في كلِّ ذلك تحقق وتجدد الرضى عن ذواتنا وديمومة الشعور بانبثاق الأمل. وذلك من خلال استحضار الذاكرة النمطية لمجمل ذلك الماضي، ومن خلال المصلحة المباشرة والنفع القريب والمتوقع لمجمل ذلك المستقبل، الذي يُتَصَوَر في الأذهان والعقول. وتُحَضَّرُ المقدمات له بصفته النتيجة النهائية المرجوة والمطلوبة. فبضاعة الماضي التي يملكها هي “الفكرة والعبرة”، وبضاعة المستقبل التي يملكها هي “المصلحة والمنفعة”. وإذا أضفنا إلى كل هذا التوصيف السابق، عنصراً جديداً متقحماً، ذا سيادة واقتدار، وله ترجع السطوة ومقدار الهيمنة والسيطرة على الشخص/ الجماعة، وعلاقته/م بالزمان، هذا العنصر الجديد هو “الشعور”؛ من حيث كونه الوظيفة النفسية التي لا تلبي سوى حاجة إرضائية غير عاقلة، متعاونة مع الإحساسية والحدسية والتفكرية لكل ما يمكن تصنيفه تحت الاستجابة لمطلب: “يعجبني أو لا يعجبني”، أو “أرغب أو لا أرغب”، أو “يرضيني أو لا يرضيني”..إلخ.. إذا أقررنا بأن كلية وظيفة الشعور، محشورة ومحصورة بين التوق والرفض، والتنازع فيما بينهما حسب الحاجة لكل منهما، فإننا الآن سوف نبدو، وكأننا في اجتماع على طاولة واحدة، جمعت هذه العناصر الأربعة: الشخص والزمان (الماضي/المستقبل) والشعور والذاكرة النمطية. فإذا أدركنا بأن هذه الوظائف النفسية لا تعمل معاً مجتمعة، وفي توقيت واحد، وإنما تضحي بوظائفها البديلة، طالما حسمت خياراتها في الانحياز لأحد الزمانين، الماضي أو المستقبل. فإن التضحية بالماضي، سوف يقضي على الشعور بأن يتحول إلى المستقبل، من حيث هو تأسيس لقيمة المصلحة الجماعية والمنفعة المباشرة، مجردة من حضور الماضي بوصفه أملاً، أو فكرة ذات ديمومة وحضور مسبق. والتضحية بالمستقبل سوف يُحَتِّم على الشعور أن يتحول إلى الماضي، مضحياً بمصلحته المباشرة مع المستقبل، وليس ثمة إمكانية لأن تعمل الوظيفتين، بارتباط وثيق العروة، في آن وتوقيت واحد، وبشراكة جامعة. الشعور يحفظ للعلاقة ما بين النفس والزمان ذلك التوازن ويحافظ عليه. وليس للعقل والفكر بعدُ، حين يُحسم خيار الشعور بالارتباط بالماضي أو المستقبل، سوى ميزة العمل على توازنات التخيير وعقلنتها بالحجج والبراهين، ولا كذلك ترف التفضيل بين إحدى الوظيفتين، سوى أن يعمل على التسوية المطلوبة لحفظ التوازن بين الصورة الخارجية وجوهرها الداخلي، والتعايش الاضطراري وجدارة الحد الأدنى من التلاؤم مع هذا الانشطار الفصامي، الذي لا مندوحة عنه ولا مفر منه. وقد يسأل سائل: مادام الماضي قد اختصنا بكامل ثروته، وانسحب راضياً، فأصبح كل غنانا مرجوعاً اليه وبفضله، ومادام المستقبل صفر اليدين، لم يمنحنا إلا وعداً غامضاً مُستلهِماً، واستيهاماً بأن نتملكه.. أوَليس من العقل والعدل، أن نحتفي بذلك الماضي وبما وهب، وأن نوظف الشعور له كخاصية لا تعمل إلا من أجله؟ بينا لا ننظر إلى ذلك المستقبل أكثر من نظرتنا الى غريب مجهول، وطارئ ملتبس، وأُمْنية عجماء.؟ أليس هذا هو جوهر الحق، وصفوة الإخلاص لما نملك ونعلم، ودَعْك مما لا نملك ولا نعلم؟ هذا سؤال جيد وطبيعي، ومركزه من حيث موضوعتنا في الصميم. غير أن الجواب عليه سوف يرتدُّ علينا بغير قليلٍ من الإحباط والخيبة، فثروة الماضي التي نمتلكها وكنوزه الثمينة، لم يعد لها من الفاعلية والقابلية، إلا أن تكون سلسلة حصرية ولا نهائية من الأفكار المسبقة، والتصورات المؤدلجة، والخطط التي تزين وتدهش وتبهر، بيد أنها في المؤكد لا تبني، لأنها فقدت خاصية المعمارية البنائية التي يقوم عليها البناء. فهي أشبه بالعملة القديمة، التي يتوجب علينا أن نفتش بيأس عن البنك الذي يمكنه أن يقبل صرفها واستبدالها. وهي لوحات فنية تصلح أن نمتدحها أو نهجوها بالشعر والقصائد، أو نُوشِّي بها أطراف الساحات، وحواشي الكتب المفتخرة، وجدران المجالس، مع الإقرار سلفاً أنها لن تتمكن من سد جوع معدة لجائع، أو تقديم علاج لمريض، أو تعبيد طريق لمسافر، أو الذود عن حمى وطن مهدد، أو كفالة بناء سد يروي عطش الأرض اليابسة ويحمي من الفيضان. هذا الشرق عاش تاريخياً ضحية خدعة كبيرة. تشارك وتقاسم المصالح المتبادلة فيها الإنسان والتاريخ فيه عاشت أجيال وأقوام، وهي تتوهم أنها الأفضل والأكمل والأقوم وأن الله معها، وأن الحق سيحارب في صفها، وأن النصر في النهاية مضمون مضمون.. كالبنت البكر التي أقنعتها أمها أنها أجمل البنات، وأن جمالها أوسع من أن يُحاط به وصفاً، ومالها وجاهها أوسع من أن يبلغ عداً، وروعتها أعظم من أن يعروها العدم. وأن أمها وأباها وأجدادها خير الآباء الوالدِين. وما عليها سوى أن تترفع وترفض كل طالب يد، ولتتبختر مزهوة؛ فالمستقبل أكثر من مضمون، والاحتياطي الجمالي والمعنوي والاعتباري الذي تدَّخره، أكبر من أن يتصوره عقلها المحدود. فراحت تلك البنت الضحية تنتظر، حتى إذا بلغت عتياً، وطفقت تجتاز الخمسين فالستين فالسبعين فالثمانين من العمر، وجدت أمامها الهاوية والقبر، ثم الهلاك المؤكد، ثم العدم العدم. فهرب العزاء والمُعزُّون، وتوارى عن الأنظار كل من نصب واحتال عليها، وتلاشت حتى الخيالات الخفيفة السخيفة التي كانت تتسلى بها. ولم يبقَ لها إلا اثنان: ظلام الهاوية التي أمامها.. وظلام الهاوية التي وراءها.. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى