fbpx

كورونا.. الاغلاق الكبير/ الحلقة 6

ـ البوصلة / شرق المتوسط

العولمة:

لقد ابتعد الجدل الفلسفي إلى مسافات واسعة في قراءاته للفايروس، والمتتبع لحوارات الإيطالي جورجيو أغامبين مع سلافوي جيجيك سيجد الكثير من نقاط الإثارة.. لقد باتت الأسئلة أشدّ تعقيدًا من “وباء”.

سلافوي جيجيك ردّ على أغامبين، معتبرا أن رد فعل الفيلسوف الإيطالي هو نسخة متشددة من الموقف اليساري الشائع للنظر إلى الذعر والهلع كممارسة سلطوية للضبط والمراقبة والعنصرية.

وتساءل جيجيك مستنكرا: هل من مصلحة السلطات وأصحاب رؤوس الأموال إثارة أزمة اقتصادية عالمية لدعم سلطتهم؟ وأجاب على تساؤله بالقول إن الدول مذعورة ومدركة تمامًا لعجزها عن السيطرة على الوضع، كما أن هذا الذرع يزعزع ثقة المواطنين في الدولة.

وتابع جيجيك في مقاله بالقول إن الحجر الصحي والإجراءات الحكومية بالفعل تحدّ من حريتنا، لكن التهديد بتفشي الجائحة أدى أيضا لأشكال من التضامن المحلي والدولي، بالإضافة إلى أنه عزز الشعور بالحاجة لمراقبة السلطة نفسها و”إثبات أن ما حققته الصين، يمكن تحقيقه بطرق أكثر ديمقراطية وشفافية”، بحسب مقاله “المراقبة والمعاقبة” المنشور في قسم الصالون الفلسفي بعروض كتب لوس أنجلوس.

وقال جيجيك إن إجراءات مواجهة الجائحة لا يجب أن تختزل في النموذج المعتاد للتحكم والمراقبة الذي تبناه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، معتبرا أن اليمين البديل واليسار المزيف يرفضان قبول حقيقة الجائحة على حد سواء، ويقومان بالتنديد بإجراءات مواجهته.

واستنكرا مواقف ترامب وأنصاره الذين يتبنون فكرة المؤامرة، وكذلك إصرار بعض اليساريين على اعتبار إجراءات السلطات تشوبها كراهية للأجانب، وأكد جيجيك أن تجنب المصافحة والاختلاط هو شكل من أشكال التضامن اليوم.

واستشهد الفيلسوف السلوفيني برواية الأديب الإيطالي جيوفاني بوكاتشيو “ديكامورون” التي تروي هروب مجموعة من الشبان والشابات إلى فيلا منعزلة خارج فلورنسا الإيطالية هربا من طاعون فتك بسكان المدينة، مقارنا أحداث الرواية بما يحدث حاليا من هروب الأثرياء بطائراتهم الخاصة إلى جزر صغيرة في الكاريبي، بينما يبقى الناس العاديون تحت تهديد العدوى.

ويواصل جيجيك القول إن جائحة كورونا لا تكشف عجز “عولمة السوق” فحسب، وإنما أيضا عجز الشعبوية القومية، معتبرا أن شعار “أميركا أولاً” انتهى إذ لا يمكن إنقاذ أي بلد إلا من خلال التنسيق والتعاون الدولي الذي يحقق بقاءنا وبقاء الجميع.

ولمح جيجيك لتشابه ما يجري مع تعامل سكان العصور الوسطى مع الطاعون، إذ أنكروا ما يجري (مثلما يجري الآن)، ومن ثم أصبحوا غاضبين على حيواتهم أو على الإله، ثم بدؤوا المساومة والاكتئاب، وحتى العربدة والاستمتاع بالملذات، معتبرا أن الحياة ستستمر وربما تكون هناك آثار جانبية جيدة للجائحة مثل كشف الخواء الروحي وخلو حياتنا من المعنى، ودروس البيئة.

توضيحات أغامبين:

في رده على الرد، قال الفيلسوف الإيطالي أغامبين إن المشكلة ليست في إبداء الرأي حول خطورة المرض وإنما التساؤل عن “العواقب الأخلاقية والسياسية للجائحة”، معتبرا أن المجتمع -بعد موجة الذعر التي شلت البلاد- لم يعد يؤمن بشيء سوى الحياة المجردة.

وأضاف أغامبين -في مقال بعنوان “توضيحات”- أن الإيطاليين أبدوا استعدادا للتضحية بكل شيء بما في ذلك الحياة العادية وعلاقاتهم الاجتماعية والعمل والصداقات والمعتقدات الدينية والسياسية لتلافي خطر الإصابة بعدوى كورونا، وهذا الخطر المشترك لا يوحد الناس (كما أشار جيجيك) وإنما يعميهم ويعزلهم عن بعضهم بعضا؛ إذ ينظر للبشر حاليا على أنهم مصدر عدوى وخطر محتمل لا أكثر، ويجب تجنبهم بأي ثمن.

واستشهد أغامبين برواية الأديب الإيطالي ألساندرو مانزوني الشهيرة “المخطوبون” التي تجري أحداثها في زمن وباء الطاعون الذي ضرب ميلانو عام 1630، وتتعرض لجبن البشر ونفاق الأساقفة، وشجاعة بعض الكهنة، وقوة الحب، معتبرا أن الموتى لم يعد لهم الحق في الجنازة وليس واضحا ما الذي سيجري مع الجثث أيضا.

وتابع أغامبين أن مفهوم الجوار قد تم محوّه، واستغرب من بقاء الكنائس صامتة عن ذلك، وتساءل: كيف ستتحول العلاقات البشرية في مجتمع لا قيمة له غير البقاء؟

وفي توكيد على أفكاره، قال أغامبين إن “حالة الاستثناء” التي عوّدتنا عليها الحكومات مؤقتا، أصبحت حالة طبيعية ودائمة حقا، معتبرا أن البشر اعتادوا العيش في ظروف الأزمات الطويلة والطوارئ، لكن ما يجري حاليا من إعلان طوارئ غير مسبوق على الإطلاق.

وأضاف أن البشر تحولوا إلى حالة “بيولوجية بحتة”، وفقدوا البعدين الاجتماعي والسياسي، وكذلك الأبعاد الإنسانية والعاطفية.

وقال أغامبين إن المجتمع الذي يعيش في طوارئ دائمة لا يمكن أن يكون حرًا، مؤكدا أن مجتمعنا المعاصر ضحى بالحرية للأسباب الأمنية، وحكم على نفسه بالعيش في خوف دائم، وأضاف أن “أكثر الحروب عبثية هي الحرب مع عدو يقيم في داخلنا لا بالخارج”.

لا .. الأمر ليس كذلك:

الوضع أكثر غموضاً بكثير مما يتخيله آغامبين وفق جيجيك فالكارثة: ” تقوم بتوحيد الناس أيضاً، ترك مسافة أمان، والبُعد الجسدي، هو أيضاً نوعٌ من ابداء الاحترام للآخرين، فقد أكون أنا نفسي حاملاً للفيروس. يتجنّب ولديَّ لقائي هذه الأيام، لخشيتهما إصابتي بالعدوى (المرض قد يكون عابراً في حالتهما ومميتاً في حالتي).

نسمع مؤخراً مراراً وتكراراً أن كلّ فرد منا مسؤولٌ شخصياً، ويتوجب عليه التقيّد بالقوانين والقواعد الجديدة. وتعجّ وسائل الإعلام بأخبار عن أناس أساءوا التصرّف، وعرّضوا أنفسهم والآخرين للخطر (دخل رجل إلى سوبرماركت وبدأ بالسعال، وما إلى ذلك). المشكلة هنا شبيهة بتناول وسائل الإعلام للقضايا البيئية من منظار المسؤولية الفردية (هل قمتَ بإعادة تدوير جميع الصحف والمجلات القديمة؟ الخ). التركيز على المسؤولية الفردية، بالرغم من أهميته، يتحوّل لأيديولوجيا بمجرّد أن يشرع بالتعتيم وتوجيه الاهتمام بعيداً عن السؤال الكبير حول كيفية تغيير النظام الاقتصادي والاجتماعي.

عند جيجيك، لا يمكن خوض المعركة ضد كورونا إلا يداً بيد مع النضال ضد التهويمات الأيديولوجية، وباعتبار هذه المعركة جزءاً لا يتجزأ من النضال البيئي الأوسع. يستند جيجيك إلى ” كيت جونز” التي تخبره بأن “انتقال الأمراض من الحيوانات البرية إلى الإنسان هو «الثمن الخفي للتنمية الاقتصادية البشرية. أعدادنا كبيرة في كل مكان، ننتشر في بقاع كانت إلى حد ما غير مضّطربة، ونعرّض نفسنا للخطر أكثر وأكثر. نقوم بخلق مواطن ملائمة لانتقال سلس للفيروسات، ومن ثم نصاب بالذهول عندما تنشأ فيروسات جديدة”.

لذا لا يكفي تنظيم نوع ما من الرعاية الصحية العالمية للبشر، بل يجب أخذ الطبيعة بعين الاعتبار: تهاجم الفيروسات النباتات أيضاً، التي تشكّل مورد الغذاء الرئيسي لنا، مثل البطاطا والقمح والزيتون. علينا التفكير بالصورة الكبيرة لعالمنا، بكل ماتحتويه من مفارقات وتناقضات.

من المهم، على سبيل المثال، معرفة أن الإغلاق العام في الصين، جرّاء فيروس كورونا، أنقذ أرواحاً أكثر من عدد ضحايا الفيروس نفسه (في حال صدّقنا الإحصائيات الرسمية لعدد الضحايا): يقول “مارشال بوركه”، اقتصادي الموارد البيئية، إن هناك علاقة مؤكدة بين تلوّث الهواء والوفيات المبكرة نتيجة التعرض لهذا التلوّث. «عند أخذ هذا العامل بعين الاعتبار، فمن الطبيعي، مع الاعتراف بغرابة الأمر، أن نتساءل ما إذا كانت الأرواح التي ينقذها هبوط مستويات التلوث، بعد عرقلة الاقتصاد جراء كوفيد-١٩، تتجاوز عدد ضحايا الفيروس نفسه؟ حتى في ظل فرضيات محافظة للغاية، أعتقد أن الجواب هو “نعم” مدوّية». خلال شهرين فقط، يجزم بوركه أن هبوط مستويات التلوث أنقذ حياة أربعة آلاف طفل دون سن الخامسة، وحياة ثلاثة وسبعين ألف مسن، فوق عمر السبعين، في الصين وحدها.

Read More

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى