fbpx

التشريــع في الإسلام؛ قراءة ديالكتيكية

سكون أم حركة؟ ثبات أم تطور؟ اتباع أم ابتداع؟ تقليد أم اجتهاد؟ نقل أم عقل، نص أم ابتكار؟ هذه هي أعمق الأسئلة في العلاقة مع التراث والبحث عن سبيل المستقبل الإسلامي الجديد. قد يكون من الغريب أن يكتب كاتب إسلامي في الديالكتيك Dialektik الذي ارتبط تقليديا بالفلسفات المادية التي تستبعد الوحي في أي تفسير للطبيعة، والحقيقة أن الديالكتيك أو الجدل ليس إلا الصورة الدقيقة للواقع وهو تحرير فلسفي لحقيقة معروفة قديمة قام هيجل بتحريرها ووصفها، وهو بالمناسبة يطرح في صيغتين اثنتين مؤمنة وملحدة، هيغل وفيورباخ، وفي إشارة إلى التذكير بأنها أمور معروفة يدركها المرء بفطرته وروحه عنون هيغل كتابه: فينومينولوجيا الروح، وهي حقائق يعرفها الجميع ويدركونها ويطبقونها منذ فجر الحكمة إلى اليوم. أما في الجانب الكوني فإن الأمر محسوم وهو التطور والتحول وهذا ما اختاره الحكماء في التاريخ، فالإنسان والحيوان والجماد متحول باستمرار، أصلاً وفرعاً، وهي حقيقة نص عليها القرآن الكريم، منذ بداية خلق ابن آدم من نطفة إلى علقة إلى مضغة الى عظام ولحم ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً، ومن المؤكد ان هذه المراحل المختلفة تتطلب تحولاً مستمراً في الحاجات الفيزيزلوجية والحاجات التربوية، ولا يوجد عاقل يقبل أن يتلقى الإنسان التوجيهات والوصايا نفسها في مراحل التكوين والخلق والحياة بل يجب أن تكون المعرفة والشريعة متناسبة لما يتبدل من أطوار الخلق ومستوى وعي الإنسان، وهذه حقيقة تحدث عنها القرآن بوضوح وقامت على أساسها برامج الشريعة لأهل التكليف وأهل الأعذار. نتحدث عن نقيض الشيء في ذاته، وعن الإمكانات المودعة في باطن الأشياء للتحول من حال إلى حال، وهو ما يعبر عنه أهل الديالكتيك بالأطروحة والتركيب والنفي ونفي النفي أو الشميلة، وهذه المصطلحات الأربعة:  – these – antithese -synthese – Absolutes وإن كانت هيغلية في الترويج الفلسفي فهي عالمية دولية في كل ثقافة، وهي في الإسلام ثقافة شعبية مشهورة لا تحتاج إلى تقعيد فلسفي: كل حال يزول، وكل حاكم معزول، ودوام الحال من المحال، وتلك الأيام نداولها بين الناس، ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك، وبضدها تتميز الأشياء، والضد يظهر حسنه الضد. وأصبح من البدهي أنه لا يمكن على الإطلاق تقديم إحداثية عن الإنسان ذات مصداقية إلا بالإشارة بدقة إلى الزمان والمكان الذي تم تسجيل هذه الإحداثية فيه، فالوزن والطول والعمر والنبض حقائق متغيرة باستمرار ولا تستقر لحظة، حتى الحقائق التي تبدو مستقرة ويتم استعمالها للتعريف كالبصمة ولون العينين وظهور الشامات فهذه كلها إحداثيات مستقرة نسبياً ولكنها مع الأيام تذبل وتتغير وهي في النهاية محكومة بالتحول تماما كما هو حال الإنسان. والأمر نفسه في النبات والحيوان والإنسان فكل هذه الكائنات متبدلة متحولة فالإنسان أطوار والشجر أطوار والحيوان أطوار، ولا معنى لصورة شجرة أو حيوان بدون تاريخ، ولا وجود لذات لا تصاحبها طبيعة التغيير، فالأشياء كلها متحولة وطبيعة العناصر في الكون التفاعل والتشقلب، وفي حكم العقل المحض لا استقرار لعنصر في الطبيعة بمعزل عن التفاعل في الزمان والمكان. وهكذا فقد باتت السنن الكونية الفيزيائية محسومة في مسالة الجدل الديالكتيكي ولا يوجد أحد ينازع اليوم في أن المادة في حال تحول دائم سواء كانت إنسانا أو حيوانا أو نباتا أو مادة، ولم يعد لأي معلومة في العالم قيمة علمية وتاريخية إلا إذا أرفق بها تقرير الزمان والمكان، وترسم غوغل صورة واضحة من خلال محرك الزمن الموجود على البانل، الذي يحدد لحظة التقاط الصور، وحين ترى دبي مثلاً على غوغل عام 1990 مثلاً فلن تجد فيها بحيرات الشارقة ولا جزيرة النخلة ولا برج دبي ولا خريطة العالم … فهذه المعالم الجغرافية والعمرانية ظهرت في مراحل لاحقة، وتغيرت صورة الأرض بشكل صارخ خلال ثلاثة عقود، ولم يعد اليوم لأي صورة ولا أي مطبوع ولا أي مخطوط معنى ولا قيمة ما لم تصدر وثائقه بقيدٍ دقيق من التاريخ في الزمان والمكان، وهذه الحقيقة باتت صارخة في كل شيء، من تدوين التاريخ المحفور بالحجر على مداخل القلاع التاريخية إلى تدوين الزمان والمكان على رسائل الواتس آب حتى ولو كانت مجرد (هههه). والمجتمعات يحكمها الديالكتيك أيضاً، بل إن نهوض المجتمعات وقيامها محكوم بحجم التفاعل فيها والتبادل في التأثر والتأثير، وقد استقر علماء الاجتماع على أن المجتمعات الحيوية مجتمعات تشهد قياماً وسقوطاً ونهوضاً وعثاراً، وأن المجتمع الذي لا يشهد هذه التحولات هو مجتمع مائت، وأن طبيعة التفاعل الاجتماعي هي طبيعة صاخبة، والمجتمعات الهادئة عادة ما تمنى بأمراض الكآبة والهمود والفشل وتتنحى عن مراكز القيادة في العالم لتعود مراكز صدى وتقليد. والدول التي كان قيامها ضرورة اجتماعية والتفت حولها الجماهير، تحولت بعد عقود إلى علقة شقاء وبات من واجب الأحرار النضال لإسقاطها، وهو مثال واضح ينطبق على العباسيين والأيوبيين والسلاجقة والمماليك والعثمانيين، وشواهده أكثر من أن تحصى في كل مرحلة من مراحل التاريخ. والديالكتيك الذي يكتنف الكائنات والأشياء والمجتمعات يتصل أيضاً بالقواعد الفلسفية والمعرفية أيضاً، وفي هذا يقول هوايتهد: العالم ليس حقيقة قارة، بل هو جدل متلاطم، وسيكون من العبث البحث عن حقائق إطلاقية اتفاقية لا تتغير بإطلاق وتصلح في الزمان والمكان. والإسلام في جوهره نفي وإثبات، إنه جدل متلاطم، وبضدها تتميز الأشياء، والله نفسه كل يوم هو في شأن، وهو القابض والباسط، والظاهر والباطن، وقد ظهر في كل شيء وخفي عن كل شيء، وهذا كله تعبير قرآني صاعق، نصرفه عادة عن صفاته إلى أوامره، وعن ذاته إلى فعاله، وعن الخالق إلى المخلوق. ولكن هذا الوضوح في طبيعة الديالكتيك في السنن الكونية جمادا ونباتا ًوحيواناً وإنساناً ومجتمعاً وحتى مخلوقاً وخالقاً، لا زال في وعي أصدقائنا الفقهاء شأناً سلبياً، ومن المستبعد ان تغير مقالات كهذه نظرة القوم إلى الموروث الديني، وقبول أي تطور ديالكتيكي يفرضه العقل والواقع والتجربة الكونية، ولا يزال قومنا يرون أن الكمال أن لا نتطور وأن نقف على ما وقف عليه الأولون فإنهم عن علم وقفوا وأن كل شرٍ في ابتداع من خلف وكل خير في اتباع من سلف، وهي رؤية رجعية سلفية أنكرها القرآن الكريم مراراً: لو كان خيراً ما سبقونا إليه، إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. هل هناك إسلام بيوريتاني؟ إسلام يلتزم بالمطلق تطبيق السلف الصالح بدقة دون أي تعديل؟ قد يكون من الصاعق الاعتراف بأن الإسلام البيوريتاني الميتافيزيقي هو ما مارسته داعش وفي هذا السياق كل الحركات السلفية التي تطالب بوقف التاريخ عند لحظة ما تسميه السلف الصالح. في الحدود مثلاً فإن ما أقدمت عليه داعش هو التطبيق الحرفي البيوريتاني الذي مارسه السلف الصالح، وهي وقائع مذهلة استنكرها العالم كله وأولهم حكماء المسلمين: فرجم داعش للزناة حتى الموت هو المنصوص عليه في البخاري ومسلم من حديث ماعزالأسلمي والمرأة الغامدية، وقطع اليد من المعصم لمن أدين بسرقة ربع دينار في الرقة والموصل حتى ولو عفا صاحب المال هو بالضبط ما نقله الأئمة المحدثون في قصة سارق رداء صفوان، وقطع رؤوس الجرحى في المعارك وحزها وحملها الى الإمام وسجود الإمام شكرا لرؤية الرأس المذبوح هو عينه ما رواه أهل السير في قصة معاذ ومعوذ ابني عفراء وحز رأس أبي جهل بن هشام، وتحريق العصاة بالنار مستند إلى موقف أبي بكر في تحريق الفجاءة السلمي ورمي المتهمين باللواط من شاهق هو مذهب ابن عباس وكبار الصحابة، وربط المخالف بسيارتين ثم شقه نصفين هو عين ما روي عن قتل أم قرفة بربطها إلى فرسين… والقائمة تطول… إنها حقائق مرعبة بكل تأكيد، وسنذهب كالعادة لالتماس ثغرات في الرواية، أو خلل في عقل المتلقي الذي دأب على الفهم الخاطئ للمعنى العميق للسلوكيات التي جرت، أما التبرير الأكثر شيوعاً فهو ان هذه التطبيقات المتوحشة جرت عبر قوم جاهلين لا مشروعية لهم، وأن علينا أن ننتظر مجيء خليفة شرعي يقوم بتطبيق الأشياء نفسها بالوسائل نفسها بالقسوة نفسها ولكنه إمام شرعي بايعه الفقهاء ويجب أن تنزل فظائعه على الناس برداً وسلاماً!! ومع أن هذا بالضبط هو الخطاب السلفي، وهو خطاب يؤمن بالثبات ويرفض الحركة، ويكرر اللغة الميتافيزيقية في كل خطبة جمعة: كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ولكن يجب الاعتراف أن مؤسسات الدولة في سائر العالم الإسلامي حتى في تلك الدول التي تعلن تطبيق للشريعة قد توقفت عن هذه الممارسات بشكل كبير، وباتت تعتقد بالحاجة إلى تشريع جديد باستمرار، وأصبح قضاتها وفقهاؤها ينصحون بالتحول إلى العقاب الإصلاحي على الرغم من أن الخطاب السلفي الغاضب لا يزال يتردد في المساجد أسفاً وحسرة على عدم تطبيق المسلمين لدينهم. إنهم يبحثون عن نص مطلق في الزمان والمكان، ويعتبرون ذلك شرطاً في النص المجيد، ولكن الحقيقة أن هذا التصور محض وهم في الوعي السنني في هذا الكون القائم على جدل متلاطم لا يقر، وإن النص القرآني نفسه لم يكن كذلك في عصر الرسالة نفسها، بل تعرض للنسخ واحداً وعشرين مرة، وتعرض بعد ذلك للتخصيص في عمومه والتقييد في إطلاقه والتأويل في ظاهره والمجاز في تعابيره، وهذه كلها صياغات نقلت النص من كونه كتاب سحر وعجائب وخوارق يصلح لكل زمان ومكان، إلى كتاب نور واسترشاد يتفاعل ديالكتيكياً مع الواقع ويعيد إنشاء أطروحته وتركيبه ونفيه دون توقف، وتتبدل فيه الأحكام بتبدل الأزمان، وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى