fbpx

الاستبداد السياسي بين الدين والموروث الشرقي  (1/2)

ترجع مشاكل العالم الثالث عموماً، وعالمنا العربي خصوصاً، في معظمها للاستبداد الذي يشكّل حاضنة، وبيئة خصبة لكلّ المفاسد، السياسية والاجتماعيّة والاقتصادية، فالعالم العربي يملك من الموارد المادية والبشرية ما يمكنه أن يكون في مستوى الدول المتقدمة إن توفّرت له حكومات رشيدة تنبثق من رحم الشعب، والمقصود بالرشيدة تلك التي تسترشد بآمال الجماهير التي انتخبتها وطموحاتها عبر عملية ديمقراطية حقيقية، لا كـ: تلك السلطة التي تغتصب الحكم عنوة، إذ محال أن يحقق المغتصب الرخاء والتقدم للأمة، وإن حققه في جانبه المادي فإنه يفسد البلاد في الجوانب الأخرى، لذلك كان الخلاص من الاستبداد مهماً للارتقاء بالمجتمع والنهوض به، أما الطغيان الحاصل في بلداننا فمرجعه للاستبداد، ومعلوم أنّ الطغيان يولد مع الاستبداد، فحيث وُجد الاستبداد رأيت الطغيان ملازماً له، فهما صنوان لا ينفصلان، وولد الاستبداد منذ وجود الإنسان على الأرض حين قتل قابيل هابيل، وإن كان استبداد الأفراد لا يعنينا إلّا أنّه يُعدّ البذرة الأولى لنشوء الاستبداد السّياسي في المجتمعات البشريّة، ونكاد نجزم أنّ الرسائل السماوية كلها والأنبياء والرسل والمصلحون على امتداد عمر البشرية كان من أهدافهم الرّئيسة وضع حد للاستبداد “الطغيان” فإبراهيم عليه السّلام واجه النّمرود، كما وقف موسى عليه السلام في وجه فرعون الذي استعبد الناس، واقترن تحضُّر الأمم ورقيها طرداً بابتعادها عن الاستبداد، ولنا في تقدّم الغرب ونظمه السياسيّة دليل حاضر.

لذلك يعدّ الاستبداد موضوعاً مهمّاً لأنّ الحياة البشريّة المتحضرة قائمة على نقيضه “الحريّة” فالاستبداد والحريّة لا يلتقيان، ويعيشان في صراعٍ دائم لا ينقطع، هما مثل الظلمة والنور، وبمقدار انقشاع الظلمة يسطع النور، وبمقدار شعاع الحريّة يتبدّد ظلام الاستبداد، وتتحقّق كرامة الإنسان بمقدار حصوله على حريته، لذلك تسيل الدماء رخيصةً في مواجهة الاستبداد، بل وتعذب التّضحيات والآلام، فالهدف نبيل والفاتورة لا بدّ أن تدفع، فالاستبداد لن يسقط مجاناً.

إنّ الصّراع بين الحقّ “الحريّة” والباطل “أزلي” ومستمر طالما بقيت الحياة فمن العبث الاعتقاد بحتميّة الاستبداد لشعوب بعينها، فالتّدافع سُنّة تاريخيّة عبر الأزمان، ومفهوم الجبريّة وهمٌ يغرسه المستبدون في وجدان الشعوب للحفاظ على ديمومة استبدادهم.

ويخبرنا التّاريخ البشري عن هذه الحقيقة، إذ ظهر المستبدون شرقاً وغرباً وإن كان ظهورهم في الشّرق أوضح كما في الصّين وفي الهند وفي بلاد فارس وفي منطقتنا ظهر النمرود في بلاد الرافدين والفراعنة في مصر وفي أوربا أباطرة وقياصرة أمثال نيرون.

وعلى امتداد تاريخ الاستبداد اتُّخِذَ الدّين مطية للمستبد لتكريس استبداده، وإعطائه هاله قدسيّة إدراكاً من المستبد دور الدّين في السّيطرة على القلوب والضمائر، وفي توجيه الأفكار، فالتّلبّس برداء الدّين يمنع محاسبة المستبد فالإله لا يخضع للمحاسبة، ومناقشته زندقة وكفر تستوجب القتل، فيسلم المستبد بذلك من أخطر ما يمكن أن يزلزل أركان ملكه الهشّ، وفي الوقت عينه يُضْفي البعد الدّيني الشّرعيّة على أخطائه وزلّاته، فتتحوّل مظالمه لإنجازات ومثالبه لمحامد، ومن يتتبّع شطحات بعض ممّن يدّعي التّصوف في بلادنا وانقياد المريدين الأعمى لهذه الشّطحات والخزعبلات يدرك جيداً العلّة في تسخير الدّين عند المستبدين لمصالحهم، كما أنّ الدّين باعتباره منظومة فكريّة يعدّ العدوّ الأوّل للاستبداد، فرأى المستبد ضرورة تحويله من عدو لأداة، أو تشويهه في الحدّ الأدنى كيلا يثير القلاقل، ومن هنا فليس عبثاً أن يدعي المستبدّ الألوهية كما فعل فرعون الذي خاطب شعبه قائلاً: لا أرى لكم إلهاً غيري، وحيناً يرى المستبدّ نفسه ابناً لله في الأرض أو تجري فيه دماء الآلهة كما عند الأكاسرة والأباطرة والقياصرة، وفي أحسن الأحوال يعدّ المستبد نفسه ظلّ الله في الأرض يمثل إرادته وقَدَره. وكلّها حِيَل ووسائل شيطانيّة منها الدّين بريء براءة الذئب من دم يوسف، وفي هذا يقول عبد الرحمن الكواكبي في طبائع الاستبداد: “ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقاماً ذا علاقة بالله”.

تميّز الشّرق قديماً ولايزال عن الغرب بالاستبداد، إذ لم يشهد الغرب استبداداً يماثل استبداد الشّرق، وتكاد مقولة أرسطو التي نأخذها على مضض: “يتمثّل الطغيان بمعناه الدقيق في الطغيان الشرقي حيث نجد في الشعوب الآسيوية طبيعة العبيد، ولهذا فهي تتحمّل حكم الطغاة بغير شكوى أو تذمر” فكأنّ لدى الشّعوب الشّرقيّة ميلاً لتقبل الاستبداد أو صناعته، وما يؤسف له أنّ الأمر مستمرّ في عصرنا الرّاهن فمن كوريا الشمالية إلى بلداننا العربية نماذج حيّة للاستبداد السّياسي، ولا شكّ أنّ الأمر ليس مصادفة بل له أسبابه العلميّة التي قد نعلم بعضها ونجهل معظمها لأنّ الأمر لا يتعلّق بالتّاريخ السياسي الذي نعرفه لشعوب الشرق فحسب بل ثمّة عوامل أعمق تتصل بالمعتقدات والعادات والموروث المشرقي بكلّ تفاصيله، ولا يمكن الفصل بين العوامل إذ تُعزز وتدعم بعضها بعضاً لتكوّن العقل الجمعي والموروث الثّقافي الذي يصنع المستبد ويقبل به بل ويبرر وجوده وأفعاله، وهنا تتضافر العادات الاجتماعيّة مع المعتقدات الدّينيّة، فالتّرابط الأسري في الشرق يوجب الطّاعة لربّ الأسرة، وطاعة ربّ الأسرة لمن أعلى منه وهكذا تأخذ هذه الطاعة صفة القداسة حيث يفنى ويذوب الفرد ضمن المجتمع، وتعزّز المخاطر المحدقة بالفرد هذا الفناء والذوبان للشخص فالقبيلة والعشيرة ممثلة بزعيمها هي التي تحميه عند الخطر، وتتصاعد السلسلة علوّاً وصولاً للمستبد الأكبر الذي تضفى عليه صفات الآلهة، فكل تصرفاته تصطبغ بصبغة دينيّة، وتوارثت الشعوب الشرقيّة بعقلها الجمعي هذه الثّقافة، ولم تستطع الانعتاق منها إلا في حالات نادرة، إذ لم يستطع الشرق رغم التّطور الحاصل والتجارب الديمقراطية الناجحة في بعض البلدان التّخلص من هذا الموروث، بل لديها قابلية الرّجوع إلى ظلام الاستبداد إذ ما زلنا – الشرقيين- نتمسك بـ”الفرد” ونعدّه المخلّص والمنقذ، ولعلّ اختيار ماليزيا لمهاتير محمّد من جديد يعطي نموذجاً للتمسك بالفرد، ولا نصنّف مهاتير في خانة المستبدين فالرجل جاء عبر عملية ديمقراطية شفافة إنّما أردنا أن ندلل على تمسك المجتمعات الشرقية بالأفراد لا المنهج، وهو خطوة مهمة نحو الاستبداد.

وفي بلادنا التي تميّزت بالأنفة ورفض الظلم والغيرة، لكنها لم تتّخلص من الموروث الشرقي عموماً إلا في حالات قليلة، فمعظم تاريخنا السياسي لا يعرف إلا حكماً مطلقاً يقابله طاعة عمياء قوبلت أحياناً بثورات وصمها مؤرخو السلطة بحركات تمرد وفتنة، وفي عصرنا الحديث لم يحصل إلا التغيير الشكلي مع فارق ازدياد الوعي السياسي، فالحاكم لم يعد مستبداً بفضل الهالة المقدسة حوله إنما بقوّة البطش التي يملكها، وخدمته لمصالح الدول العظمى، وواقع الحال يكشف بجلاء انبطاح المستبدين العرب لمشغليهم الكبار، والأسد في سورية مثال واضح للانبطاح والارتباط بالخارج. والأمر يعود لبداية الاستعمار الغربي لبلاد العرب، فالبلاد العربيّة لم تحصل على استقلالها التّام رغم خروج العسكر الأجنبي وكلّ الشعارات البراقة المرفوعة من أنظمة الاستبداد، فجمال عبد الناصر ارتبط وجوده ضمن معادلات توازن دوليّة، والحبيب بورقيبة جاء ضمن صفقات سياسية متتابعة مع فرنسا، وكذلك الأمر في سورية التي شهدت نوعاً ما من التجربة الديمقراطية في بداية الاستقلال ليصار إلى الانقلاب عليها مبكراً بانقلاب حسني الزعيم المُهندَس من المخابرات الغربيّة “الولايات المتحدة” لتضيع معظم بلادنا في سياسات المحاور والاصطفافات بعيداً عن أي مصلحة وطنيّة، والبوصلة في كل المحاور “الكرسي” وحتى لا نخرج عن موضوعنا نجد أنّ جلّ الأنظمة العربيّة تملّكت زمام الشعوب بالسياط والبنادق، فلا رأي للشعوب باختيارها، فالشعوب لا تستشار بأعمال المستبد، لأنه منزّه عن النقصان، ونضرب مثالاً لذلك صورة ثلاثة مستبدين جمال عبد الناصر الذي حوّل إعلامه نكسة حزيران لانتصار، وحافظ الأسد الذي فرّط بالجولان، وصدام حسين الذي أدخل العراق في حربين عبثيتين الأولى مع إيران والثانية مع الكويت، فذهبت ثروات العراق العظيم هدراً، إذ بإمكان مصر وسورية والعراق منفردة أن تكون دولةً عظيمة لا تقل شأناً عن فرنسا وبريطانيا، أو اليابان وكوريا الجنوبية في الحد الأدنى.

إن المدقق في طبيعة حكمَ الاستبدادُ في بلادنا العربية يجده بثلاث قبعات، قبعة العسكر، وعمامة الدين، وعمامة الوراثة، فمصر وسورية والعراق وغيرها بقبعة العسكر، والخليج عمامة الدين، والبقية حكم وراثي أو بين بين.

ولم يختلف الاستبداد إلا مظهراً فالاستبداد مهما تغيّر لونه فجوهره واحد، إذ للحاكم تحت القبعات الثلاث صفة القداسة، فالحاكم لا يخطئ ولا يحاسب، ويعطّل القوانين التي وضعها ويحكم بها وقت يشاء كيف يشاء، ويتصرّف بإرادة الشعوب، ويتلاعب بمصائرها دون حسيب أو رقيب أو مساءلة فهزيمته انتصار، وفشله نجاح، وخيانته وطنيّة، وتخريبه لهوية الأمة حضارة ورقي، فكانت الثمرةُ انحطاطاً وتخلفاً وتبعيّةً.

هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.

حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى