fbpx

السويداء: أوهام المدينة.. متاهة الخيارات

الكاتب: صافي خطار في الوقت الذي ترتب مدن البلاد خرابها وتستعد للعودة للحياة من جديد، تعيش السويداء اليوم حالة من الإضطراب والترقب بعد صدور مرسوم العفو الأخير الذي نص على إلغاء العقوبات والغرامات عن المتخلفين أو الفارين من الخدمة العسكرية شرط أن يسلموا أنفسهم ويلتحقوا بالجيش.. المرسوم جاء مخيبا للآمال وخصوصا بعد الإشاعات الكثيرة التي سبقت صدوره والتي كانت تتحدث عن عفو عام وتسريح العساكر الموجودين وإلغاء الاحتياط، وقد سبق أن صدرت مراسيم مشابهة في السنوات الماضية ولكنها لم تلق الاهتمام من أحد، أما هذه المرة فسيبدو الأمر مختلفا كليا عن باقي المرات، ذلك أن صيغة التهديد واضحة فيما حمله وأعقبه، بالنسبة للمطلوبين للخدمة الاحتياطية في السويداء وكذلك بالنسبة للمتمنعين عن الخدمة. عقب صدور المرسوم، قام ماهر الأسد، قائد الفرقة الرابعة، بإرسال مجموعة من الضباط في مهمة رسمية للقاء وفود ووجهاء مدينة السويداء وإبلاغهم بما سموه (المكرمة من القيادة لأبنائها) والتي جاء فيها أن المطلوبين للاحتياط يخدمون في الفيلق الأول حصرًا والذي يغطي محافظات الجنوب السوري، أما باقي المطلوبين لخدمة العلم من بقية المحافظات السورية، فيخدمون في قطع الجيش الأخرى أسوة بباقي أبناء سورية.

  • وهم الحياد:

فحوى الرسالة التي أطلق عليها تسمية (المكرمة)، كما درج النظام على التسمية، كان واضحًا للجميع، ومفاده بأن الحكومة مصممة على ضبط هذا الملف ولو بالقوة هذه المرة، وأن من الأفضل للمدينة ولأبنائها الذهاب طوعًا للخدمة مستغلين العرض الحالي. قضية تخلف شباب السويداء عن الالتحاق بالجيش أوالفرار منه هو ما برز على الواجهة خلال السنوات الماضية كموقف تبنته المدينة في وجه من يتهمها بالوقوف إلى جانب السلطة والمشاركة بهدر الدم السوري وخصوصًا بعد المواقف التي تبنتها حركة رجال الكرامة، ودعمتها بقوة، لتقف في وجه عمليات سحب الشباب عن الحواجز وسوقهم إلى الخدمة الإلزامية، حتى وصل الأمر لحركة رجال الكرامة، إلى إزالة الحواجز داخل المدينة في مشهد لطالما أثار تساؤلات كبيرة عن رد فعل النظام اتجاه هذه التصرفات، والذي (ونعني النظام) لم يحرك ساكنا عما يجري حتى بدا الموضوع وكأن هناك اتفاق غير معلن مع المدينة بأن تبقى خارج الاحتجاجات وتحتفظ لنفسها بالحياد عن المعارك التي اندلعت في معظم البلاد ما، شجع الكثيرين من شبابها على الفرار من الجيش أو البقاء في بيوتهم ورفض الالتحاق بالخدمة العسكرية. في المقابل لم تكن السويداء على قلب واحد، فالكثير من أبنائها لايزال يخدم في الجيش والشرطة، وما من مدخل قرية إلا ويوجد فيها مقبرة للعديد من الشباب الذين قتلوا في الحرب، هؤلاء هم أبناء المكان أيضا، وهم الوجه الآخر للمدينة والذي يحضر أمام الطرف المقابل، ليقدم صكوك الولاء والطاعة والبقاء (تحت سقف الوطن) وفق تعبير النظام، و(بأحضانه) أيضا، فكانت النتيجة أن تمزقت المدينة بين خيارين، ومزقت أبناءها كذلك، بعد أن وضعت (قدما لها في البور وأخرى في الفلاحة)، لكن ذلك بالطبع لن يشفع لها لا أمام اسمها وتاريخها ولا أمام أبناءها اليوم. الخوف ما دفع الناس غريزيا للتكتل حول الزعامات الدينية والتقليدية وخصوصا في ظل غياب أي مرجعية أخرى يمكن الوثوق بها، الزعامات الدينية بدورها أدركت حجم الموقف ومخاطره، ولطالما كانت تصرح بأن موقفها هو موقف اللحظة بما تمليه، الموقف الذي يحفظ للناس دمها وسلمها الأهلي ولو بالحد الأدنى وكثيرا ما أعلنوها صراحة أنهم لن يحملوا دم احد في رقابهم، السويداء لم تفقد بوصلتها إذا بل هي من كسرها عمدا، لم يكن باستطاعتها أن تفعل أكثر مما فعلت، كان لابد أن يكون الموقف هو اللا موقف والقرار هو اللاقرارفي انتظار القادم من الأيام، فهل ستنجو المدينة بما اختارت؟ أم كانت مجرد أوهام فرضتها الأسئلة الكبيرة؟ وهم الحماية الذاتية والخروج عن سيطرة الدولة: لم تتعامل السلطة مع السويداء كمنطقة خارجة عن السيطرة ابداً، وهي في حقيقة الأمر كانت كذلك، فمقرات القطع العسكرية ووحدات الجيش المنتشرة في المحافظة بقيت موجودة بكل عتادها وكذلك مقرات الفروع الأمنية وعناصرها، وكانت الغاية لدى السلطة أن لا تكون السويداء خارج السيطرة ابدا، ولكن بالمقابل لتحقيق ذلك غضت السلطة النظر عن كثير من الملفات والقضايا التي كانت في ما سبق سنوات الأزمة تعتبر خطوطا حمراء لا يمكن تجاوزها، ومنها ملف المطلوبين للخدمة ووجود فصائل مسلحة غير منضوية تحت راية الجيش ولا تتبع له وعلى رأسها مثلا حركة رجال الكرامة.. يمكن القول إن المدينة قد نجت من الدمار والبارود الذي لحق بباقي المدن ولكنها كانت تتفتت من الداخل وتعيش دمارها الخاص. أدى انتشار السلاح بشكل عشوائي وكبير إلى حالة من الانفلات الأمني الخطير، فانتشرت أعمال العنف بشكل واضح حيث تحولت السويداء إلى مكان تحكمه عصابات الخطف والقتل والسرقة التي روعت الناس وتسلطت عليهم دون أن يكون هناك من يردعها أبدا. هي معادلة الموت أو الفوضى، لم يكن هناك خيار آخر أمام السويداء وقتها، فاختارت الابتعاد عن الموت ظنا أن بإمكانها تجنب الفوضى ومعوّلة على وحدة المكان وتكاتف أبناءه التي لطالما واجهت به كل الغزاة الذين مروا على تاريخها.

  • في الوقت القاتل:

رهانات المدينة ووهمها بأن تنجو من المقتلة السورية سقطت جميعها، والواقع أنها وضعت أمام خيارات صعبة قد لا يكون ملف المطلوبين لخمة العلم آخرها فمخاوف المدينة تتعدى ذلك بكثير، فلا يزال الهاجس الأمني هاجسها الأول وخصوصا بعدما أدركت أن بوابات “داعش” أو عصابات القتل والسرقة قد تفتح من جديد إذا ما رفضت الخضوع هذه المرة، وأنها قد تموت جوعا إذا ما وضعت بعض الحجارة على الطريق الواصل بينها وبين دمشق، خصوصاً و”داعش” يطوّق المنطقة برعاية وتنسيق من السلطة، أو بكفّ النظر عن تواجد “داعش”، بما يجعل اهالي السويداء يطلبون استعادة السلطة لمحافظتهم حماية من داعش، لتكوزن السلطة هي من أضرم النيران وهي مطفأة النار، وهي لعبة عرف النظام كيف يلعبها، في منطقة هي الأشدّ خطورة من بقية المناطق السورية، كونها المنطقة الواقعة على خطوط الاختزاز، ونعني خطوط اسرائيل، بما جعل الأهالي أمام خيارات ليس فيها أي خيار، وبما جعل المحافة مساحة مفتوحة للعبة إقليمية أشد اتساعاً في تقاسم وظيفي قد ندرك كوارثه في الغد، دون نسيان لعبة “المخطوفين والمخطوفات” والتي لاتزال ورقة للعب بيد النظام حتى اللحظة، دون نسيان أن أزلام النظام، مازالوا يمسكون بمفاصل حيوية من أعناق الناس.. كل ذلك يمكن وصفه بـ: ـ الأسئلة المفتوحة على كل الاحتمالات والتي لا تملك المدينة جوابا لها. يحدث في زمن الحرب أن تسقط المدن في غيبوبة وتفقد بوصلتها فلا تقوى على حمل اسمها أو تاريخها، هو امتحان اللحظة الحرجة في زمن الحرب الذي لا تقبل الحياد، فتتشظى الخيارات بين دم ودم، ويصبح للمدينة تقويمها الخاص وتضاريسها المنفردة خارج حسابات الجغرافيا الملتهبة، هو تأجيل للنار ريثما تكتمل أحطابها، ستدرك السويداء لاحقا أن ما كان لها من خيارات ليس الا سرابا لن يحميها من دفع فواتير الرهانات والحروب. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى