fbpx

الدستور السوري ودساتير القمع الثورية

ماذا يريد السوريون من الدستور ومن لجانه الثلاث، المعارِضة والمؤيدة والأممية؟ انتقد أغلب السوريين ما نشر من تصريحات لمسؤول من المعارضة قال فيها: “المطلوب نسيان بند هيئة الحكم الانتقالية” والقول بأن هذا المطلب قد أصبح من الماضي. لا شك في أن “واقعية” مثل هذا الطرح تتعارض سياسياً مع مصالح الشعب السوري في الخلاص من الاستبداد والدكتاتورية، وفي الوقت ذاته تتفق هذه الواقعية مع ما يحاك داخل كواليس المجتمع الدولي. ولنسأل أنفسنا ثانية: ماذا يريد “المعارضون” السوريون من الدستور؟ الجواب ببساطة شديدة يتمثّل في ولادة أو تعديل مواد وفقرات تنقلهم من عصر ما قبل مارس/ آذار 2011 إلى تطبيق القرار الدولي 2254 لعام 2015 المبني على مقررات بيان مؤتمر جنيف يونيو/ حزيران 2012. ولكن، في حال حدث تبنّي مواد جديدة في الدستور تتوافق مع القرار السالف في ما يتعلّق بعملية “الانتقال السياسي” في سوريا، هل يُعدّ ذلك فوزاً تاريخياً للشعب السوري ضد نظام الأسد؟ للإجابة عن هذا السؤال سنطرح مثالين يحاكيان طرح دستور للبلاد أعقب “ثورة” شعبية وجماهيرية اندلعت بفعل تجربتين مختلفتين شكلاً ومضموناً، لكنهما أفرزتا نظامين متشابهين في الجوهر والسلوك:

  • في روسيا، وُضع دستور جديد للبلاد سنة 1918، أي بعد عام واحد من “الثورة البلشفية”، جاء في أول فقرتين منه: “تعدّ روسيا جمهورية سوفياتية، والسلطة المطلقة فيها للعمال والفلاحين والجنود المنتمين إليه. ويجري تنظيم الجمهورية السوفياتية الروسية على أساس اتحاد حر من الدول الحرة، كدول اتحاد الجمهوريات الوطنية السوفياتية”.

وعلى الرغم من أن ستالين لم يغيّر حرفاً واحداً من ذلك الدستور، إلا أن رئاسته كانت مضرب مَثل للدكتاتورية والاستبداد والاستعباد، ليس للشعوب السوفياتية فحسب بل لدول أوروبا الشرقية التي حكمتها الأحزاب الشيوعية؛ وأول من استُعبد فيها كان العمال والفلاحون، وساد قمع الحريات وتحويل الحكومات فيها من أنظمة ديمقراطية حرّة إلى أنظمة قمعٍ شمولية. ولعل أكثر ما يثير السخط داخل المنظومة السوفياتية يتجسّد في إطلاق مسمى ألمانيا (الديمقراطية) على الجزء الشرقي منها، الخاضع للإدارة السوفياتية وجهاز أمن “الشتازي” الذي تفوق على جهاز الـ “كي جي بي” نفسه، وحوّل أغلب الألمان الشرقيين من مدنيين وعسكريين، إلى عناصر استخبارات وكُتّاب تقارير. أما الـ “كونغرس السوفياتي” الذي يفترض أن يمثّل السلطة العليا للجمهورية، بحسب الدستور نفسه، فكان جهة تنفيذية لرغبات الحاكم المطلق. ولن نتطرّق إلى الفقرات اللاحقة من الدستور التي تنصّ على حق الشعوب في تقرير مصيرها بعد ما ذكرناه عن قمع للشعوب داخل أغلب دول أوروبا الشرقية من قبل السوفيات.

  • المثال الثاني من الدساتير “الثورية”، يتمثّل هذه المرة في الدستور الإيراني الذي أقرّ سنة 1979، بعد ما أُطلق عليه “الثورة الإسلامية” بعام واحد أيضاً.

ومما ورد ضمن فقرات ذلك الدستور، في المادة الثانية على سبيل المثال: “رفض أشكال الاضطهاد جميعها، سواء بفرضه أم الخضوع له، وأشكال الهيمنة كلها، سواء بفرضها أم بقبولها”. وفي المادة الثالثة: “مكافحة مظاهر الفساد والضياع كلها”. ولكن الأهم من كل ما جاء في المادة الثالثة أيضاً كان ما يأتي: “طرد الاستعمار كلية ومكافحة النفوذ الأجنبي”؛ وأيضاً: “إلغاء مظاهر الاستبداد واليكتاتورية جميعها ومحاولات احتكار السلطة؛ وضمان الحريات السياسية والاجتماعية في حدود القانون؛ ومشاركة الناس جميعهم في تقرير مصيرهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي” وتنصّ المادة السادسة على سيادة العملية الديمقراطية في “انتخاب” الشعب لرئيس البلاد. حتى هذه اللحظة تسير الأمور على خير ما يرام، ولا نظن بوجود من يختلف مع تلك الفقرات الدستورية، بل لو عُرِضت على أمم الأرض لأعجبوا بها، ولطالبوا أنظمتهم -ملكية كانت أم برلمانية أم فدرالية أم “خلافية على نهج النبوة”- بتبني كامل مواد الدستور الإيراني (الجمهوري الإسلامي) وتطبيقها، ولغضّوا الطرف عن المادة الخامسة الدّالة على حاكمية “الولي الفقيه” المطلقة وألوهيته ما دامت المواد الأولى نصّت على حرية الشعب ورفض الاضطهاد ومكافحة الفساد وحقّ تقرير المصير وممارسة حق الانتخاب وانعدام ميزة “الأبدية” للرئيس المنتخب؛ فماذا تبتغي الشعوب غير ذلك؟ ذلك ما ينصّ عليه دستورها، أما التطبيق فمناقض للنص، فإيران اليوم تجسّد المعنى الحقيقي للاستعمار الذي يدّعي دستورها طرده ومكافحة النفوذ الأجنبي القائم على أساسه، فطبّقت أبشع صوره العسكرية والسياسية والاقتصادية والطائفية داخل سوريا ولبنان والعراق واليمن وهلم جرّاً. هذا بالنسبة إلى سياستها الخارجية، أما داخلياً فقد غابت الحريات السياسية والاجتماعية وحق تقرير المصير الذي نص عليه الدستور، وساد بدل ذلك التمييز العنصري بين مكوّن القومية الفارسية المهيمن على إدارة مؤسسات البلاد السياسية والعسكرية والدينية، وبقية القوميات المشكّلة للدولة الإيرانية، من بلوش وكرد وتركمان، وعرب (الأحواز) المحتلة منذ ما يقارب مئة عام. والحال، إن معضلة الدستور الحقيقية التي يعانيها السوريون اليوم، لا تتعلّق فقط بلوائح اللجان وشخوصها الـ 150، ولا بإقراره قبل عملية الانتقال السياسي الذي نص عليه القرار 2254، بل تكمن خطورتها في إشراف دولٍ كروسيا وإيران على إنتاجه، الدولتان المحتلتان سوريا ومصيرها وشعبها ومقدّراتها. وبوجود نظام الأسد على سدّة السلطة في دمشق، مهما توافقت نصوص الدستور مع رغبات الشعب المطالِبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فإن أي دستور للبلاد مآله إلى السقوط من دون أدنى شكّ بالتزامن مع استمرار تسلّط أجهزة الأمن والجيش -المُدارة من الأسد- على رقاب السوريين ومصائرهم. سيسقط الدستور مع أول عملية اعتقال تعسّفي يطال مواطناً، ومع أول إهانة لمعلّم أو عامل أو صحافي، بل سيسقط مع أول تقرير أمني يستهدف مفكّراً أو أديباً أو ناشط مجتمع مدني؛ باختصار شديد: سيُرمى بالدستور في أقرب مقبرة جماعية مع أول صفعةٍ تُـوَجّه إلى مواطن من عنصر شرطة أو مخابرات أو ابن أصغر ضابط في (الجيش العربي السوري). مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى