fbpx

الحصافية.. من هنا بدأ الإخوان

“أردت أن تبطش بأخيك الذي عاش معك أكثر من ربع قرن.. عرفك بالمحمودية يافعا لم تتجاوز الرابعة عشرة وهو في العشرين، واستعان بك في الدعوة المباركة، حتى إذا ما صلب عودك وأتممت دراستك وزاولت عملك بالإسماعيلية وأنشأت بها شعبة أخرى، وفتحت لكما القلوب وتعددت فروع الجماعة، آثرك على نفسه، وبايعك على الرياسة وطلب إلى الناس أن يبايعوك حتى ارتفع نجمك”، كلمات خاطب بها أحمد السكري، أول وكيل عام لجماعة الإخوان، حسن البنا، على صفحات “صوت الأمة” في 11 أكتوبر 1947، بعد تلقيه خطابين، الأول “تنظيمي” من البنا/المرشد يبلغه أنه “نظرا لظروفكم الصحية والشخصية، وبناء على تفويض الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين، رأيت إعفاءكم من عضوية الجماعة”، والثاني “شخصي” يرجوه فيه أن يتقدم باستقالته. ونشر الخطابين عبدالرحيم علي في كتابه “الإخوان المسلمين – قراءة في الملفات السرية”.

كان السكري، وفق محمود عبدالحليم، وهو قيادي إخواني من رعيلها الأول، “خطيبا ذا حنجرة ذهبية، كلامه كأنه موسيقى.. صاحب قوام فارع، وسمت جميل، وهندام جذاب، كأنك أمام أحد أبناء الأرستقراطية”، و”ثقافته واسعة، وعقليته ناضجة، وأفقه فسيح، وغيرته على الإسلام نابعة من قلب عامر”، (عن كتاب الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ).

والسكري والبنا كلاهما ولد في مدينة المحمودية بمديرية البحيرة، الأول عام 1901 والثاني 14 أكتوبر 1906. ووفق مذكرات البنا فقد تعرف على السكري وهو لم يكمل 14 عاما. كان السكري، وقتها، ناشطا في الطريقة الحصافية الشاذلية وجمعية الإخوان الحصافية، ذراع الطريقة الخيرية. البديهي أن يأخذ الشاب التاجر، بيد الطفل التلميذ، وهذا ما حدث، وفق روايتهما معا، حتى نقطة التصادم. عرفه بشيخ الطريقة، عبدالوهاب الحصافي، وزكاه للجمعية الأم، الإخوان الحصافية.

غير أن هذه الجمعية، لطبيعتها المتصوفة، لم تكن معنية بتقويم سلوك الآخرين، أو بمواجهة أنشطة خيرية مسيحية مثل “التطبيب وتعليم التطريز وإيواء الصبية من بنين وبنات”، اعتبرها البنا في مذكراته “تبشيرا”. أسس الشاب التاجر، ابن الأسرة الميسورة، جمعية الحصافية الخيرية المستقلة “للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، عام 1920، واختار الطفل سكرتيرا لها، ربما لعدم تفرغه التام هو وزميلاه في تأسيسها حامد عسكرية وعلي عبيد.

في ما بعد، حين يكبر الطفل سيكتب عن الجمعية في “مذكرات الدعوة والداعية” قائلا “كافحت الجمعية في سبيل رسالتها مشكورة وخلفتها في هذا الكفاح جمعية الإخوان المسلمين”. وبعدها “كان عهد أن يعمل كل منا لهذه الغاية”. ويفصل “كان السكري بالمحمودية وعسكرية بالزقازيق وأحمد عبدالحميد بكفر الدوار، وكنت بالإسماعيلية. وبطريقة ما كان حسن البنا هو من بنى أول علاقات مؤثرة سواء كسكرتير لجمعية الحصافية الخيرية، أو لانشقاق عنها يخطط له، حين التقى مرات الملك عبدالعزيز بن سعود والمعتمد الأميركي لديه. وعاد من الحجاز عام 1928 ليكون العام الفارق في مسيرة الإسلام السياسي”.

يعتم على سنوات الجمعية الأم ويروي في مذكراته أن اللبنة الأولى ولدت في مارس من ذات العام، ذاكرا أسماء مجموعة حرفيين كشركاء تأسيس للجماعة، وطبيعي، حينئذ، أن يتقدمهم المدرس “مرشدا”.

ويستطرد السكري “وليت وجهي شطر الإخوان ممن جمعني وإياهم عهد الطلب والود والواجب، فوجدت استعدادا حسنا”. كان أسرعهم إلى مشاركته، كما كتب، السكري وعسكرية وعبدالحميد، مؤسسو الحصافية الخيرية. وعن المسمى، سيتجاهل بأثر رجعي أنه عائد وقتها من الحجاز حيث “إخوان من أطاع الله” ونشاطه في “الإخوان الحصافية” مراهقا لسنوات، وسيختلق قصة تقطع صلته بهما “نحن إخوة في خدمة الإسلام، فنحن إذن الإخوان المسلمون”، كأنه ابتكر مفردة “الإخوان” في لحظتها!

سيحضر مؤسسو الحصافية الخيرية في أول مكتب لإرشاد الجمعية القديمة الجديدة، وسيكون السكري أول وكيل عام لها، متوليا “الإشراف التام على النواحي الإدارية والعملية” حسب قرار تنظيمي للمرشد. ويقول محمود عبدالحليم إن البنا اختاره “سفيرا في مقابلة المسؤولين من رجال الدولة ورؤساء الدول العربية ورجال القصر وساسة البلاد”.

يوصف عبدالحليم بـ”مؤرخ الجماعة”. ويلاحظ الباحث سامح فوزي أنه الأكثر توسعا بين من عايشوا صدام السكري مع البنا استعراضا له، مع ذكر إيجابيات عديدة لأول وكيل للجماعة. غير أنه ينحاز تماما للبنا، حتى يبرر مرحلة “الحصافية” بقوله “لما كان الأستاذ أحمد يكبر البنا سنا، وكان طالبا صغيرا ويعمل بالتجارة فكان طبيعيا أن يكون في التكوينات الإدارية رئيسا، والطالب الصغير سكرتيرا”. وضع البنا، الذي بالكاد تجاوز الثالثة عشرة وقتها وبمعهد رفض أن يقبله، بداية، لصغر سنه، في ميزان القسمة مع تاجر سبقه في النشاط بسنوات ومن أسرة ميسورة!

تبرير يناقض منطق الأمور، ولم يقتنع باحثون كُثر ممن نقبوا في تاريخ الجماعة، منهم.. الكويتي محمد صالح السبتي، في كتابه “الإخوان المسلمون.. فضائحهم بأقلامهم” والسعودي نايف محمد العساكر في كتابه “موسوعة حركات الإسلام السياسي.. الإخوان المسلمين”. وعبدالرحيم علي في “الإخوان المسلمين.. قراءة في الملفات السرية”، وثروت الخرباوي، القيادي السابق بالجماعة، الذي ينسب في كتابه “سر المعبد” لعصام العريان أن الجماعة نجحت في حرق مذكرات السكري.

يتغافل القطاع الغالب من الإخوان عن أن جماعتهم هي ابنة لأخرى رعت مؤسسهم قبل أن ينسلّ منها بعدما “ارتفع نجمه”، أو تناقضت مسيرته مع هدف الجماعة الأولى. وبينهم يظل محمود عبدالحليم الأقل تشويها للسكري. فمن قرأ مؤلفات رفقاء البنا سيصدمه حجم القسوة على السكري، رغم أنه على الأقل شارك في تأسيس جماعتهم، مقارنة بموقفهم من سبب الشقاق الذي طالب السكري بـ”تطهير” الجماعة منه.. عبدالحكيم عابدين، زوج شقيقة البنا والذي خلف السكري في الوكالة، (“طارق رمضان على درب راسبوتين الإخوان”، العرب الأربعاء 16 أكتوبر 2019).

سواء كان السكري هو مؤسس الجماعة، قبل تقديمه للبنا بدلا منه، أو اقتسم تأسيسها، أو رفيق درب لمرشدها الأول، فوقائع تاريخ الجماعة تقول إنها ولدت اسما وفكرة وبناءين من رحم “الإخوان الحصافية” و”الحصافية الخيرية”. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى