fbpx

العقائد المقدّسة والإرهاب المقدّس

اتخذت ظاهرة الإرهاب بتجلّياتها المعاصرة تحوّلات عدّة وتنوّعت طبيعة المنفّذين لعملياتها التي طالت مختلف أصقاع الأرض، لتجسّد مشهداً مرعباً من الإرهاب المقدّس الذي تقوده التناقضات الأيديولوجية وصراعات المصالح الدينية والسياسية، وتتضافر فيه جملة معقدة من ديناميات متشابكة بين المقدّس والرمز والأسطورة التي تزوّده بالطاقة والمشروعية، وتفعل فعلها في توليد العنف الديني في أكثر صورة تطرفاً، محوّلة الدين عن غايته الأساسية في ترسيخ القيم الإنسانية العليا للبشر، إلى أداة عنف تستمدّ وجودها من ممارسات عنفية عايشتها البشرية جمعاء ولها حواضنها الثقافية والمعرفية، والتي تفرّخ العنف وتولّد ظواهر النبذ والإقصاء، وممارسة القوة الخشنة في العلاقات الإنسانية. الإرهاب الديني وارتباطه بالرمز الإسطوري الإرهاب الأول وغريزة البقاء والتفوّق، وصلت في عصرنا إلى معارك إثبات الوجود التي تبنّاها أفراد للدفاع عن المقدّس الديني والاجتماعي، وتنظيمات إرهابية خلطت الدين بالسياسة محوّلة عناصرها لقنابل موقوتة تقودها فكرة التضحية بالنفس لأجل “المقدّس”، التي تحاكي طقوس الحضارات القديمة وفكرة القربان المقدّم لأجل الآلهة. فالتضحية بالنفس كانت جزءاً من الخضوع والطاعة الكلية، واتخذت أكثر تجلّياتها عنفاً في الجريمة الأولى بقتل هابيل لقابيل في صراعهما على الخيرات المادية وأفضلية القرابين برمزيتها الدينية، والتي أسّست لمراحل عنف تقودها “العقائد المقدّسة” وتُكسبها صفة المشروعية والقبول، كاستجابة فردية بأن يعمل الإنسان بما لديه من وسائل حسب ما تقتضيه الظروف والملابسات لإحقاق الحقّ حسب ما يراه. فجميع الديانات الوثنية والتوحيدية حمل بعض أتباعها مسؤولية “الحقيقة المطلقة” والدفاع عنها، كجزء من إثبات الإنتماء المقدّس الذي يحمل في باطنه دعوات العنف ضد الآخر، بعيداً عن مكارم الأخلاق أو المطلقات الإنسانية والأخلاقية والدينية. فما يحمله الفرد من رمزية (إرضاء الله) تحوّل إلى أداة يتوسل بها بعض المتدينين ثواباً أكبر من الله، بحيث لم يترك أمر العقاب والثواب لرب العالمين. من التضحية إلى الأُضحية انتقل ارتباط التديّن بالتضحية بالنفس كنوع من الطاعة يتقرب بها الشخص إلى الله، إلى التضحية بالنفس والآخرين “الأُضحية” والتي تحاكي فكرة القربان المقدّس، وقد ارتبطت العمليات الانتحارية بهذه الأُضحية، وجرى استخدامها كعمل إرهابي منظّم منذ القدم. ففي سنة (66 – 73) قبل الميلاد، أثناء مناهضة اليهود للرومان، أنشأ “السيكارى” (أي الخنجر) نظاماً إرهابياً هو الأول من نوعه، وهم جماعة يهودية متطرّفة يتزعمها “ايليعيزر بن يائيير”  تحصّنت في قلعة مسعدة “ماسادا”، واعتمدت أساليب غير معهودة في القتال، وارتكاب المجازر وأكثر عمليات “السيكارى” كانت ضد اليهود من القادة والشخصيات المرتبطين بكهنة المعبد الذين يشكّون في تعاونهم مع الرومان، أو من لا يتفق معهم في آرائهم. فكانوا يغتالونهم بخنجر صغير، بحسب ما ذكره المؤرخ”نخمان بن يهودا” في كتابه “أسطورة ماسادا والذاكرة الجماعية وخلق الأسطورة في إسرائيل “. وتتابع الاغتيالات طريقها إلى المسيحية من رأس يوحنا المعمدان إلى (صلب المسيح) ومعاقبة تلامذته ومريديه بالقتل والحرق وقطع الرؤوس، تبدّلت الغايات وبقي الأساس في تصفية الخصوم ثابتاً. أما إسلامياً فلم تكن العمليات الانتحارية جزءاً من مسيرة نشر الدعوة، ولم يجرِ استخدامها عبر التاريخ الإسلامي إلا في القرن الحادي عشر ميلادي، من قبل فرقة ’’الحشّاشين’’ وهي فرقة إسلامية “شيعية” تزعّمها “حسن الصبَّاح” واتخذ من قلعة “ألموت” حصناً له، واستخدم العمليات الانتحارية ضد السلاطين المحليين، ولعبت دوراً في تاريخ المنطقة ونُسجت حولها الخرافات والأساطير. فنعمة الفردوس والوعود بالمسرّات الخالدة كافية لتجعل الكثيرين يقفزون من فوق الأسوار ويدقّون أعناقهم لينالوا الجنّة المزيفة التي كان يمنحها شيخ الجبل. فرقة الحشّاشين أعطت إسمها لفنّ القتل والاغتيال في اللغات الأوروبية الحديثة، فمنذ الحملات الصليبية (1096- 1291)، أثارت كلمة حشّاش (assassin) اهتمام الغرب وأنعشت ظاهرة الاغتيال كسلاح سياسي، ليستأجر الأساقفة والأمراء القتلة للتخلص من خصومهم السياسيين والدينيين. ومع الحروب الدينية ارتفع الاغتيال إلى مستوى الواجب المقدّس، وجعلت منه الصراعات دينية كانت أم سياسية فضيلة لا جريمة. العمليات الانتحارية وأدلجة السياسة ذاع صيت العمليات الانتحارية أثناء الحرب العالمية الثانية وعرفت بعمليات “الكاميكازي اليابانية” عندما قام طيارون انتحاريون يابانيون بتفجير الأساطيل الأمريكية بطائراتهم، كما استعملت من قبل “نمور التاميل” الانفصاليين في سريلانكا، بالإضافة إلى فلسطين لبنان والعراق، ثم انتشرت لتصبح جزءاً من مسيرة الإرهاب العنفية. رغم مخالفة فعل الانتحار لكافة الشرائع السماوية، إلا أن العمليات الانتحارية اتخذت العديد من المفاهيم السياسية والوطنية والقومية، ففي الحرب مع اسرائيل شكّلت العمليات الفدائية ضد الاحتلال نوعاً من المقاومة، وتم استخدامها من قبل حزب الله اللبناني خلال حرب 1982 مع إسرائيل، لتدخل منطقة الالتباس في إطلاق صفة العمليات “الاستشهادية” وإخضاعها لمفهوم أيديولوجي عقائدي يجعل معارضتها مخالفة للعقيدة، ما مهّد الطريق ليطغى فكر الإرهاب الديني ومنطق احتكار الصواب على انتاج المزيد من القنابل البشرية التي تحوّلت سلاحاً فتاكاً في الحروب الدائرة بين المتصارعين على اختلاف مشاربهم، وتوسع مفهومها ليستخدمها التكفيريون ضدّ مخالفيهم حتى من المسلمين. تحوّلت فكرة الانتحاريين في أنماط التديّن الإسلامي الشائع إلى ثقافة يجري اتباعها من قبل معظم التنظيمات السياسية الدينية، تتمظهر في إعطاء الأولوية للدين على الإنسان، لتصل إلى التضحية بالحياة وقتل الآخرين من أجل الدين، وأصبحت جزءاً من مفردات المظاهر الإرهابية. المقدّس وحرب الرموز شكّلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 مفصلاً تاريخياً من مفاصل العنف الديني، والعنف السياسي المضاد في حياة المجتمعات الإنسانية، فعلى أثر هذه التفجيرات الدامية، صار (صدام الحضارات) عنواناً للعلاقة بين العالمين الإسلامي والغربي. واستعادت التنظيمات الإرهابية مخزون العلاقات المتوترة بين الشرق والغرب، منذ الحروب الصليبية إلى ما تلاها من الاستعمار القديم والحديث، لخلق الأعذار واستقطاب المهمّشين لخوض “حرب رمزية تضحوية” تقوم على الترويع والتأثير على معنويات الخصوم رمزياً، والتي قابلها إعلان الحرب على الإرهاب بشكلها الواسع، وفي كليهما كان  لرمزية “المقدّس” أثره. فسقوط البرجين في أمريكا مثل رمزاً لسقوط أمريكا والرأسمالية العالمية بالنسبة لملايين المقهورين في العالم العربي، وهو ما يجري اتباعه في كافة العمليات الإنتحارية التي تساهم في تحقيق النشوة الدينية بطابعها الطهري، حتى لو راح ضحيتها مئات من المسلمين والأبرياء مقابل جندي واحد أمريكي. وفي الجهة المقابلة لجأت أمريكا إلى حرب العراق 2003 وقام الرئيس الأمريكى جورج بوش بتحديد معالم السياسة الأمريكية، في محاربة “محور الشر”، والتي انعكست في أذهان الكثيرين من أبناء الغرب كمنظومة قيمية تلبس رداء الأيديولوجية المقدّسة في صراع الخير والشر ضمن حدود واضحة، تأخذ بعداً دينياً وثقافياً وحضارياً. إرهاب مقدّس بلا قيود انتقال العنف “الديني” إلى دائرته المعولمة والقدرة على تخطي الحدود الدولية والقفز على كل أشكال المنع والحظر، ساهم في تجذير المواقف السياسية وخلط الأوراق. فاستعمال بعض التنظيمات للمقدّس بصورة مراوغة أكسبها المشروعية في أذهان الحالمين باستعادة الأمة الإسلامية لدورها الثقافي والحضاري، والتحرّر من مخلّفات الجرائم التي ترتكب بحق مصالحها، واعتبار القوة والقدرة على القتل هي الطريقة الوحيدة لإنقاذها. كان الرد المباشر عليها شعار الحرب على الإرهاب المنتمي إلى دائرة الأيديولوجيا، فهذه الحرب اعتبرت حرباً عادلة بالمعنى الديني والحضاري للكلمة، واكتسبت قدسيتها السياسية ومشروعيتها لدى الحركات الأصولية الدينية والقومية في الغرب، التي لم تكتفِ في الوقوف ضد الأصوليات الإسلامية كجماعات عقائدية تتبنّى أيديولوجيا انتحارية وتتحرك في مناطق توتر وفضاء تنازعي، إنما ضد الدين الإسلامي، ليدفع ثمنها المهاجرون المسلمون الذين اصطدموا بمقدّس آخر “اجتماعي” لا يقلّ خطراً عن المقدّس الديني، في إشاعة خطاب الكراهية و”الإسلاموفوبيا” تحت عنوان الدفاع عن الحضارة والثقافة الغربية، التي وصلت حدّ استهداف المسلمين في الغرب، وآخرها حادثة استهداف مسجدين في نيوزيلندا. لتشكل حروب المقدّسات تحدّياً إنسانياً وحضارياً يواجه الإنسانية جمعاء. خاتمة في النهاية العنف الديني المعاصر ساهم في بناء رؤية إنسانية سوداوية دامية، تتدفق فيها أشكال “المقدّس” التي لا تجد سندها في الأديان لِبُعدها عن الأيديولوجيا التنازعية، ولا في الأعراق فلا وجود لأعراق صافية، ولا في الحضارات التي شكلت تمازجاً بين المكتسبات الثقافية المختلفة، بل تجده في أذهان مُسيّسي الدين الذين حوّلوا البشر قرابين في مسار عنف معولم يكتسح الوجود الإنساني في مذبح بشري يُغسل فيه الدم بالدم. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى