fbpx

السودان: انتصار الثورة مؤجـل

قاسية هي اللعبة السياسية التي يديرها العسكر من وراء القصور المرفهة والجدران المحكمة لكي يعيدوا زمام الأمور إلى يد العسكر من جديد، وقاسية هي الطبيعة على أولئك المساكين الذين أنهكهم الوقوف الطويل في طوابير الحصول على الرغيف منذ ثلاثين سنة، والذين اختاروا تمضية أيامهم السابقة أمام قصور الجنرالات، ولكن في مكان مختلف تماماً، فهم في طرقات شديدة القسوة في هذه الأيام، خصوصاً مع التبدلات القائمة في طقس مدينة الخرطوم، والتي تبدأ فيها الحرارة العالية في بداية نيسان، حيث تترافق مع موجة من الرياح شديدة السخونة، وتستمر إلى موعد قدوم فصل الصيف، موسم نزول الأمطار واعتدال الطقس هناك، ولكن في عالم السياسة، قد تستمر القسوة على حالها، ولا يحدث اعتدال قريب، ليس لأن الجيش يريدها -أي السلطة لعامين- وليس لأن القبول بذلك يعني الذهاب نحو المجهول، ولكن لأن العسكر هم من يمتلكون المعادلة حتى اللحظة. فالسودانيون حاولوا في وقت سابق مشاركة الربيع العربي حلم الثورة، غير أنهم تراجعوا مع مشاهدتهم للحالة الدموية التي امتدت من ليبيا إلى اليمن وسوريا، وباعتبار الشعب السوداني يميل تاريخياً نحو الحكمة، فقد كان التوقف عن متابعة انتفاضته ضد الحكومة أمراً واقعياً في حينه، ولكنه الآن إلى اين سيذهب؟ معادلة واحدة: من حيث الجوهر ينتمي السودان كغيره من دول العالم الثالث إلى منطق دولة الأمن والعسكر، ما يعني أن قضايا العدل والحقوق وغيرها، هي مجرد قضايا نسبية التحصيل، وهو ما ينعكس بشكل طبيعي وتلقائي على الجوانب الاقتصادية لأي دولة، فالمستثمر المحلي لا يغامر بالمشاريع ذات الأمد الطويل، ولا يتوسع أفقياً داخل البلاد، ويميل نحو تغريب رأس المال الخاص به، بينما يدخل المستثمر الأجنبي كشريك للحكومة، التي تتعامل معه على شاكلة الشركات التي تبني المنازل بقصد تأجيرها كعقارات، وهنا تتحول الاستثمارات إلى واحدة من اثنتين، إما نحو الاستثمارات السياحية، وهي التي لا تخدم سوى قطاعاً محدوداً من المواطنين بشكل مباشر، أو أن الاستثمارات سوف تتجه نحو تقوية البنية التحتية في البلاد، وهذه المسألة لا تأخذ مسارها الطبيعي في أغلب الأحيان، وهي تماماً حالة السودان، الذي ظلت البنية التحتية فيه شبه معدمة، وظلت أبرز معضلات السودان تتمثل في أزمة المواصلات، والتي تبدأ من العاصمة، وتنتقل إلى مختلف الولايات، وهي أزمة تزداد تفاقماً منذ سنوات، حيث شبح العجز عن توفير المقومات الأساسية للبنية التحتية للمواصلات، خصوصاً أن السودان بلد شاسع وما لم تتوفر بنية مواصلات مناسبة، فالنهضة تبدو مستحيلة. تعطيل نمو البنية التحتية يجد صداه مباشرة في مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، ويصل إلى حدود الأمن الغذائي ذاته، ويصبح رغيف الخبز مادة يصعب الحصول عليها. فمن طوابير الواقفين بانتظار الحافلات في مدينة الخرطوم يومياً لكي تقلهم إلى أعمالهم، إلى طوابير الواقفين بانتظار الحصول على رغيف الخبز، هي أزمة واحدة، عنوانها الإدارة الفاشلة، التي لم تتمكن منذ ثلاثين عاماً من حل أزمة الرغيف أو الوقود، والتي تعصف بين الحين والآخر بالبلاد. الدولة للعسكر: معادلة الإنفاق على الجيش في دول العالم الثالث، كما هي في السودان لا تواجه أي مشكلة، وهي بالمقابل معادلة تبتلع دخل المواطنين من مختلف الزوايا، سواء عبر الضرائب وطرق الجباية المختلفة وغيرها، ناهيك عن أن الجيش لا يعاني معاناة المواطن في المواصلات، ولا يشعر بالعناء لأجل الحصول على الطعام، لكنك تستطيع مشاهدة الآلاف في الخرطوم وغيرها من المدن لا يستطيعون الحصول على حذاء فقط، يخفف عنهم وطأة الحرارة في لهيب الصيف، وهي معادلة الجيش الذي من المفروض أن يكون حامياً للبلاد، لكنه هو الجيش ذاته، الذي يمتص كل ما هو موجود من موارد البلاد لأجله هو لا لأجل المواطن. وفي النهاية يأتي السؤال، من هو هذا الجيش، والذي يضم العسكر والشرطة والمخابرات، ويتمتع بامتيازات فلكية، فهو في واقع الحال، يمثّل السلطة، وهو المدافع عن الحاكم، وهو الذي يحرس جمهورية الفاسدين، التي هي ألف باء السياسة في البلدان النامية، لأن الدولة ذات البنية الأمنية، لا يهمها المواطن ولا المبدع ولا غير ذلك، وكل ما يهمها البحث عن الموالين، الذين يمسكون مفاصل السلطة، فهؤلاء هم أداة السلطة الاستثمارية في مواجهة الشعب، وهم بالمقابل أداة استغلال المواطن. الجيش كمؤسسة حاكمة: التنوع القبلي، والصراعات القبلية الموجودة في السودان والحرب مع الجنوب التي استمرت لعقود طويلة، ثم أزمة دارفور وغيرها من الصراعات الداخلية، هي واحدة من القضايا التي قصمت ظهر المواطن أولاً، لكن الجيش في هذه المعادلة كان يتحول إلى القوة الأهم في البلاد، وبالتالي عندما تدخل الدولة في نطاق الصراعات الداخلية أو الخارجية، يصبح الجيش أداة محورية في إدارة البلاد مباشرة، وهو في بلدان العالم الثالث يصبح الأداة المحورية لكل شيء، وفي هذه المعادلة يبقى الجيش هو المؤسسة الوحيدة المتماسكة والممسكة بالسلطة في آن معاً، والتي تنال توافق الجميع عليها، وهكذا يصمت الشعب على معاناته وسط تلك الهالة من التمجيد للجيش، وهو ما أتاح للحكام في السودان طوال العقود الماضية التربع على عرش الجيش(الذي هو حامي البلاد) بمنتهى الراحة،  ولكنه بالمقابل، أي الجيش، كان يتحول إلى قبيلة كبيرة يديرها الرئيس ضد عموم معارضيه. صحيح أن أزمة الجنوب انتهت، وتم انفصال الجنوب عن السودان، وكان يمكن أن تكون تلك إحدى أهم عوامل إعادة البناء في السودان، خصوصاً أن أزمة جنوب السودان غادرت البلاد وانتقلت الى صراعات داخلية في دولة جنوب السودان ذاتها، غير أننا في النهاية نبقى أمام كيان عسكري، والعسكر بالعموم لا يفكرون بشراء حافلات للمدنيين، ولا بإصلاح الطرق، وجل همهم إبقاء المؤسسة العسكرية قوية ومتماسكة، وكل ذلك يعمل على إدخال مطالب الشعب في قائمة الانتظار الى أجل غير مسمى. مستقبل مجهول: من الصعب جداً إجراء أي معادلة سياسية داخل السودان من خارج نطاق المؤسسة العسكرية، ومن الصعب جداً استمرار الواقع الحالي كما هو، فالحالة الاقتصادية التي تعيشها السودان منذ عشرات السنين، لا يمكنها أن تتبدل بمجرد إزاحة البشير وعملية تعديلات وزارية أو خطابات ووعود، وهو ما يعني استمرار الأزمة، واستمرار تعثر الحلول، وأما المعارضة السودانية، فهي حتى لو امتلكت كامل الشارع السوداني، فهي في النهاية لا تمتلك معادلة الجيش (الذي هو القبيلة الكبيرة) التي تسيطر على البلاد، كما أنها لا تمتلك معادلة الخبز والوقود، والتي يمكن للحكومة الجديدة أن تستخدمها كسيف مؤذي وموجع للناس بشكل أكبر. السودان، ثورة صعبة في ظل ظروف قاسية، لكن الانتصار المنشود هو مؤجل ولا أحد يعلم مداه. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى