fbpx

مسؤولية المؤسسة الدينية في منع ظهور حركات التطرف

شكل انهيار حركة داعش الأصولية المتطرفة منعطفاً مهماً للمراجعة والتأمل في مسؤولية الشريعة والمجتمع عن ظهور هذه الحالات المتطرفة وسبل تجنب ظهورها مرة أخرى. مع أنني لا أشاطر الأمل في أن هذا الانهيار هو النهاية، وأشعر بأن التيار المتطرف سيعيد إنتاج أشكال مختلفة قد تكون أشد قسوة وتطرفاً وبخاصة مع استمرار غياب العدالة وانسداد أفق الحلول السياسية وعجز المؤسسة الدينية عن معالجة المشكل الجوهري المسبب للإرهاب. ويجب الاعتراف أن مواجهة التيارات العنيفة في هذه المرحلة حدث فقط عبر الهجوم العسكري الماحق، بناء على التحالفات والمصالح السياسية، وأن الدور الثقافي والمعرفي والفقهي والحواري كان في حده الأدنى، وهو ما ينذر بعودة هذه الحركات العنيفة إلى الظهور لدى أول فرصة. وأجدد رأيي بأن منع الحوار مع هذه الفصائل بوصفها مصنفة حركات إرهاب كان خطأ جسيماً ارتكبته الأسرة الدولية، وقد أغلق أبواب المعالجة كلها وقصرها على المحق العسكري وهو ما كلف الأبرياء والمدنيين عشرات آلاف من الضحايا، وأنجز دملاً للجرح بغير تعقيم وبات ينذر بالانتكاس وتفجر المرض من جديد. وبخاصة أن المتحاربين يعلمون بيقين أن عدداً من الحركات التي تماثل داعش عنفاً وبطشاً من فصائل حكومية أو ثورية أو ارتزاقية ظلت خارج التصنيف (منظمات إرهابية) ما طرح مزيداً من الأسئلة، حول صحة وجود ازدواج في المعايير الدولية من عدمه. ومن المؤكد أن كثيراً من المدارس الدينية السائدة ستدرس طلابها في المستقبل (وقد بدأت بالفعل) أن أمل الخلافة الإسلامية المتجدد على منهاج النبوة قد نهض في (القرن الخامس عشر الهجري) في بلاد الشام والعراق عبر عدد من المجاهدين وقد نجحوا في حكم شطر مهم من العالم الإسلامي وأقاموا حدود الله وشريعته في الرقة والموصل ومنبج والباب والبوكمال وساد العدل والسعادة سنوات عدة، ولكن العالم الكافر تآمر على الخلافة الإسلامية وشوهها ثم حاربتها بتحالف عسكري دولي بالتعاون مع المشركين والمنافقين والحكام الخونة وقد حدث بالفعل البطش في إخماد طموح المسلمين وحقهم في إقامة الخلافة. وبعيداً عن التحليل السياسي والإخباري فإنني أظن أن المؤسسة الدينية مسؤولة مسؤولية رئيسة عن منع ظهور تيارات فكرية وثقافية حاملة للمضمون المتطرف الإرهابي وذلك عبر المحددات الآتية: • وجوب مراجعة تراث العنف في الإسلام مراجعة مباشرة وجريئة وشجاعة، وتجاوز البحث الفردي إلى حشد الآراء التي تؤكد أن النص محكوم بأسباب نزول وورود، وأنه مخصوص بزمانه ومكانه، وأن سرمديته في الزمان والمكان إساءة إليه، وتجاهل لقواعد أصول الفقه والعقل، وتحديد الزمان والمكان والإمكان، وتتركز المسائل الأساسية التي تتطلب شجاعة وحزماً على مسائل الجهاد والجزية والاسترقاق والسبي وحد الردة وحكم تارك الصلاة. • إعادة دراسة التاريخ الإسلامي بلغة علمية ومحايدة تتجنب تقديس الأشخاص، وترفض ثقافة تقديس الحرب وتضع الحروب التاريخية في سياق التدافع الحضاري المعروف لدى سائر الأمم، وعدم تسويغ العنف والغزو والاجتياحات والسبي بعناوين الفتح الإسلامي، وفي الوقت نفسه تتجنب أيضاً النظرة العدوانية الحاقدة التي يقوم بها انفعاليون يستهدفون تعزيز الصراع بين الإسلام والحضارات الأخرى فحسب، تأسيساً على قاعدة تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون. • تصحيح علاقة المسلم بالآخر، ومواجهة فكرة تكفير العالم، والتوقف عن عدّ الأديان كلها شركاً وباطلاً، والتوقف عن مشروعات أسلمة العالم، واستبدال مشروع الكلمة السواء الذي نادى به القرآن الكريم بذلك، وتضمن في إطار التوافق والتعايش تنازلات كبيرة حتى عن ثوابت في الدين كالصلاة والصيام والزكاة والحج لمصلحة تحقيق وئام بين الأديان. • معالجة شعار تطبيق الشريعة، حيث ما يزال شعار تطبيق الشريعة حماسياً ومؤثراً، ولكنه ينصرف إلى تطبيق الحدود على الجسد بالشكل المعروف فحسب، والتأكيد أن الدول الإسلامية كلها توقفت عن التطبيق الحرفي للحدود، ولجأت إلى تحقيق المقاصد من دون تعذيب جسدي استجابة لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وواجب المؤسسة الدينية حشد الفتاوى والأفكار لتأكيد قدرة الفقه الإسلامي على الاستجابة لما أجمع عليه العقلاء، وإحياء معنى الإجماع الذي يظهر في ممارسات رجال تشريع الدول الإسلامية بوصفه تحقيقاً للإجماع الشرعي الموصوف في الفقه الإسلامي. • العمل على مصالحة المسلم مع القانون الدولي بوصفه ثمرة للفطرة الإنسانية وتفاعلاً مع غايات الخلق، وتحقيقاً لحكمة الله في خلق هذا العالم، وتأكيداً لنجاح المشروع الإلهي في الأرض، ومواجهة ثقافة الرفض والريبة لكل اتفاقية دولية بصفتها عملاً معادياً للإسلام، وإظهار القيم الإسلامية في توكيد ما تتجه إليه الأسرة الإنسانية من وفاق ووئام، وتبديداً للمخاوف التي أثيرت (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) عبر التأكيد الرباني: (إني أعلم ما لا تعلمون). • العمل على إصلاح تصورات نظام الحكم في الإسلام وتأكيد أن نظام الخلافة وولاية العهد وتوريث الحكم ومزايا الخلفاء وامتيازاتهم ليس مطلباً شرعياً، بل هو من أشد أشكال البعد عن الشريعة، وهو يتناقض تماماً مع سلوك الخلفاء الراشدين الذين رفضوا التوريث ونظام ولاية العهد ولم يجمعوا أي ثروة طائلة، وإظهار الجانب الديمقراطي في سلوك النبي الكريم والخلافة الراشدة بوصفه نقيضاً مباشراً لممارسات الحكام وتسلطهم، ووجوب العمل على قيام الدولة على الأساس الديمقراطي المتناقض كلياً مع النظام الثيوقراطي الذي حكمت به الكنيسة أوربا في العصور الوسطى. • المواجهة المباشرة مع منهج تغييب المرأة وإذلالها وفرض الممارسات العنيفة عليها مثل الضرب والنقاب والحجر، وإحياء قيم الحرية والعدالة والكرامة على أساس من الوصايا القرآنية والنبوية، وبيان أن الممارسات الإذلالية الممارسة ضد المرأة هي مناهضة للشريعة بالمطلق وأن في الشريعة ما يكفي لإنتاج فقه جديد مؤسس على كرامة المرأة وحريتها ومشاركتها في الحياة ومساواتها بالرجال. ولا بد من التأكيد أن الدراسات الفقهية والعلمية مهما كانت جادة فهي ضعيفة التأثير ما لم يجرِ التشبيك والتنسيق مع المؤسسات الدينية القيادية حكومية أو مجتمعية، بحيث تقدم هذه الدراسات للمؤسسات الفاعلة في صيغ مقنعة وقابلة للتأثير تأسيساً على التزامات هذه المؤسسات بالدفاع عن قيم الإسلام في الرحمة والإخاء والسلم، وانطلاقاً من خطابها الرسمي حيث هي تصرح بلا استثناء أنها ترفض خطاب الكراهية والتكفير ولكنها ما تزال تكرر الثقافات والمناهج إياها التي تعيد تدوير التطرف وإنتاجه من جديد. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى