fbpx

ما هي أولى نتائج نضال الشعب العراقي؟

حتى كتابة هذه السطور، بلغ عدد شهداء انتفاضة الأول من تشرين ثاني (أكتوبر) 2019 في العراق، المستمرة إلى اليوم، بين 150 و200 شهيد، بحسب المصادر المختلفة.

لا مندوحة من التفكير بمقارنة بسيطة: منذ نحو ثمانية أشهر، يتظاهر الشعب الجزائري. والحصيلة: ولا ضحية. وهناك تدير دفة الحكم سلطة تعدّ “معتدة وشرسة وديكتاتورية وعسكرية… وفاسدة”، ولو إن فسادها مجرد “لعب أطفال” إذا ما قورن بفساد زمرة المسؤولين في العراق “الدم قراطي”، البلد الذي يصدر يوميا 5 ملايين برميل نفط، البلد الممكن افتراضاً أن ينعم شعبه بأحد أعلى مستويات الرفاه والازدهار في العالم. الواقع أن نحو 10 ملايين عراقي، أي أكثر بقليل من رُبع السكان، يعيشون تحت مستوى الفقر، بدولارين اثنين يومياً للفرد. وأترككم تتصورون أين تذهب الثروة الطائلة، في جيوب مَن وخزائن أي بلد محتل.

 عودة للحديث عن التظاهرات الحالية، يتساءل البعض: ثم ماذا؟ غداً ستنتهي بالحديد والنار وتعود المياه إلى مجاريها… الأسنة، كالعادة. تلك فرضية متشائمة، يمكن القول إنها لا تستعصي على التفنيد. فمن الآن، يجوز حصر نتائج ملموسة، ولو إنها لا تخص تحسن الوضع المادي الفعلي اليومي لأبناء الشعب، ولا تركيبة المنظومة السياسية. إنها أهم من ذلك: إنها إشارة واضحة إلى تغيير أساسي في تصور الشعب لوضعه، متمثلاً في صحوة لا سابقة لها منذ الغزو الأميركي في عام 2003.

 فأولاً، فطن العراقيون إلى حقيقة جوهرية: المرجعية وَهْم كبير، مجرد سلطة دينية لا تحلّ ولا تربط. وإن ربطت، مثلما غالباً ما فعلت في الماضي، فإنها تربط مقدرات البلد ببلد آخر، وتدعو إلى انتخاب أكثر من يدينون بالولاء له مذلة وذيلية. إذن، لن تردع المرجعية الفاسدين ولن تحلّ مشكلة الجياع والعاطلين عن العمل، الذين طالما استنجدوا بها ظناً أنها ترغب في انتشالهم، واعتقاداً أنها لو رغبت ستقدر. لكنها لا تريد ولا تستطيع في الأحوال كلها. إذ لا ننسى أن الانتفاضة الحالية تدور رحاها المستعرة في بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية، التي، في أغلبيتها الساحقة، تبجّل صدقاً جهة مبهمة اسمها المرجعية.

وثانياً، مَن كان يتلكأ في التسليم بحقيقة الاحتلال الإيراني المطبق على حياة العراقيين إطباقاً تاماً، عن طريق أفواجه وعصائيه وكتائبه وميليشياته المتعددة الأخرى، بدأ يدرك الآن تلك الحقيقة. قبل أيام، تمكن متظاهرون في بغداد من الإمساك بقناص إيراني كان يطلق النار عليهم من سطح إحدى العمارات. وقيادة القوات العراقية نفسها اعترفت بمداهمة قناص إيراني آخر في أعلى مبنىً آخر، “لكنه تمكن من الفرار إلى جهة مجهولة”، بحسب بيان أصدرته. ذلك الاعتراف بهرب المجرم بات وقتها موضع سخرية العراقيين وتشكيكهم مثلما تجلى على مواقع التواصل الاجتماعي. فوقتها، لم تكن حكومة عادل عبد المهدي قد فرضت إغلاق شبكة الإنترنت، ولم تكن ميليشيات “مجهولة” قد هاجمت بعد القنوات التلفزيونية القليلة التي تجرأت على تغطية الأحداث (منها “العربية” والقناة الكردية NRT بالعربي). تم تحطيم مكاتب تلك القنوات وأجهزتها ووسائلها التقنية بالكامل لإحكام تعتيم إعلامي مخجل ومشبوه من جانب معظم وسائل الإعلام العربية والعالمية.

وثالثاً، فندت التظاهرات أيضاً نداءات بعض أوساط المعارضة الملحة منذ سنوات بضرورة تدويل الوضع في العراق بغية إيجاد حل. هنا أيضاً، فهم العراقيون أن التدويل خرافة، بما أنه لم ولن يحصل.

بلغت تلك الآمال أوجها عقب انتخاب دونالد ترمݒ رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. فهلل عراقيون كثيرون فرحاً، وكثرت منشورات على غرار “أبو إيڨانكا دواؤهم”، “أبو إيڨانكا لا يتفاهم” (مثل رينغو)، ” ترمݒ سيضع حداً لهم، سيحررنا منهم”… وهلمّ أوهاماً. لكنّ أبا إيڨانكا لم يحرك ساكناً، كالمتوقع، وظل نزاعه مع “هُم” مجرد تخبيص وفقاعات إعلامية.

هذا أيضاً، فهمه العراقيون، الذين قرروا أنهم الوحيدون القادرون على إنقاذ أنفسهم من مستنقع الفساد، وأن الدرب طويل لتنشيفه، وأنه “لا يحك ظهرك إلا ظفرك”. 

ربما لن تدوم المظاهرات طويلاً جراء وحشية القمع الذي تواجهه، خصوصاً في ظل ورود أنباء بتلقي قاسم سليماني (الحاكم الفعلي للعراق) أوامر من طهران بضرورة وضع حد للانتفاضة خلال 48 ساعة “بأي ثمن”، يعني حتى لو ارتكب مجزرة بشعة، يروح ضحيتها المئات أو أكثر. لكن القمع، مهما بلغ إجراماً وإرهاباً، لن يمحو ما تحقق بلا رجعة: إدراك العراقيين لتلك الحقائق. وذلك التغيير في العقليات هو الأخطر من وجهة نظر الزمرة الحاكمة في بغداد لأنه نواة لثورة عارمة، ستتواصل حتى نيل المطالب المشروعة.

 

هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.

حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©

 

Read More

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى