fbpx

قراءة في طبيعة النظام الجزائري

كي نفهم تركيبة النظام الجزائري وخصوصيته ومساره، ومرجعياته الأيديولوجية لا بدّ من وقفة تاريخية قصيرة تعود إلى تركيبة حزب جبهة التحرير الوطني منذ سنوات حرب التحرير، وما عرفته من تفاعلات وصراعات، وصولاً إلى الراهن. . كان حزب الشعب الجزائري بقيادة الشحصية الوطنية البارزة (مصالي الحاج) أهم الأحزاب التي استطاعت تأطير أعداد كبيرة من الجزائريين المطالبين بالاستقلال، لكنه واجه انشقاقاً كبيراً بين اتجاهين: 1 . اتجاه يدعو إلى الوصول إلى الاستقلال بالوسائل السلمية. 2 . اتجاه مقابل يدعو إلى العمل المسلح سبيلاً وحيداً لانتزاع الاستقلال. انشقّ الحزب وفق ذلك، وخرجت منه حركة انتصار الحريات الديمقراطية التي دعت إلى استخدام السلاح، وشكلت بعض الهيئات كـ المنظمة السرية التي قامت ببعض العمليات ثم كُشف أمرها، واضطر بعض أفرادها إلى الهرب إلى مصر، كما كان حال الرئيس أحمد بن بلة وعدد من رفاقه، بينما واصل عدد آخر منها التحضير للثورة خلافاً لقرارات قيادتها، وهم من كانوا في اللجنة المركزية، لذلك عرفوا بالمركزيين تمميزاً لهم عن المصاليين، وهم الذين كانوا نواة الثورة، وجرى التحضير لاجتماع 22 في أحد المنازل حيث قرر بالإجماع التحضير للثورة وأطلق اسم جبهة التحرير الوطني على قيادتها السياسية، وجيش التحرير الوطني على الجناح العسكري، وبدأ التحضير بتأمين السلاح استعداداً لليوم الملائم الذي كان الفاتح من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 وإذاعة بيان أول تشرين الثاني/ نوفمبر الذي يحدد طبيعة الثورة ومبادئها. ملاحظات أولية: أولاً. كان واضحاً أن قيادة الثورة التي قررت قيامها هي مجموعة من الشباب المتحمس الذي لا يرتبط بخلفية أيديولوجية محددة، ويمكن عدّهم خليطاً فكرياً وطبقياً تنقصه الخبرة السياسية، والثقافة النظرية، وقد أعلنوا الانشقاق عن الزعيم مصالي الحاج الذي كان يعدّ -إلى حينه- أب الحركة الوطنية الجزائرية، ثم وقعت بينهم تصفيات واسعة. أهم الأهداف التي وردت في بيان أول تشرين الثاني/ نوفمبر 1 . إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية. 2 . تحقيق وحدة شمال أفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي والإسلامي. وعلى الرغم من المرجعية الإسلامية إلا أن المبدأ جاء عاماً، وكذلك الأمر في عدم تحديد الإطار العربي لبلدان المغرب العربي واستخدام مصطلح وحدة شمال أفريقيا. والاتفاق على تسمية الإطار السياسي بجبهة التحرير الوطني كان إقراراً بحقيقة وجود تيارات واتجاهات سياسية متعددة داخل قيادة الثورة، أو أنها تسمح بوجودها من منطلق عدّها الوعاء الذي يجب أن يستوعب الجزائريين بشتى اتجاهاتهم. ثانياً. عاشت الثورة الجزائرية صراعاً بين ما يعرف بالداخل والخارج، وبين السياسي والعسكري، وقد ظهر الخلاف جلياً على السطح في أكثر من مناسبة، وأدى دوره في مرحلة ما قبل الاستقللال وما بعده، وكذلك سيطرة ما يعرف بمجموعة وجدة على مقاليد الأمور، واستلام مقدرات الحكم بعد الاستقلال، لذلك يعدّ كثيرون أن مؤتمر الصومام الذي عقد في آب/ أغسطس 1956 داخل الجزائر(قرية الصومام) وبروز عبّان رمضان بوصفه أهم منظميه والفاعلين فيه (من القبائل الكبرى وجرت تصفيته لاحقاً من قبل الثورة سراً) كان التعبير الأوضح عن وصول الخلافات إلى أوجها بين الداخل والخارج، إذ قرر أولوية الداخل، وتوحيد كافة المناطق العسكرية (قسّمت الجزائر إلى ست ولايات) بقيادة واحدة، والعمل على انضواء السياسي ضمن العسكري، والحدّ من التدخل الخارجي، وبخاصة المصري الذي كان يشكل نوعاً من الحساسية لدى بعض الأطراف في الثورة. ثالثاً. كما يمكن ملاحظة بذور الصراع القائم على أساس قومي، بين اتجاهات عروبية تريد ربط الجزائر بالأمة العربية، واتجاهات جزائرية تبرز فيها الاتجاهات القبائلية أو الأمازيغية التي يعدّ بعض غلاتها أن العرب دخلاء ومحتلين، وألّا علاقة لهم بالعروبة. الحقيقة الكبرى هي أن الثورة الجزائرية لاقت دعماً عربيا واسعاً، وبخاصة من مصر، درجة أن هناك من يربط استمرار الثورة الجزائرية وانتصارها بحجم الدعم العربي والخارجي، وقد كانت مصر الأولى في حجم الدعم في مختلف المجالات، بدءاً من الدعم بالسلاح الذي كانت الثورة في أمس الحاجة إليه، وصولاً إلى الدعم السياسي واسع النطاق، واستضافة أعداد كبيرة من القيادات الجزائرية، بما فيها الحكومة المؤقتة، ومكتب تحرير المغرب العربي، ومن المعروف أن مشاركة فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 كان من أحد أسبابه الرئيسة معاقبة النظام المصري وإسقاطه نتيجة دعمه للثورة في الجزائر. . نلاحظ هنا أن مؤتمر طرابلس 1958 يمكن عدّه بمنزلة الردّ على مؤتمر الصومام، إذ أعاد تصحيح بعض المفهومات وتأكيد هوية الجزائر العربية الإسلامية، وأكد وحدة القيادة بين السياسي والعسكري، والداخل والخارج، وتشكيل الحكومة المؤقتة ومقرها القاهرة. . في طرابلس أيضاً عقد المجلس الوطني الجوائري مؤتمراً قرر فيه العمل على تحويل الجبهة إلى حزب طلائعي، وقد حدث ذلك بعد عام على الاستقلال، إذ باتت الجبهة تحمل اسم حزب جبهة التحرير الوطني، وأُقرّ ميثاق الجبهة الذي يعدّ الإطار الأيديولوجي لها. . رابعاً . استمرار الثورة الجزائرية وانتصارها جاء في أوج نهوض حركات التحرر الوطني والقومي، وعلى الصعيد العربي كان المشروع العربي التحرري، الوحدوي يتصاعد ويجد مرتسماته بزعامة عبد الناصر وثقل مصر، ووصوله إلى الحكم في سوريا والعراق، وفي عدد من حركات التحرر القومي التي تمارس الكفاح ضد الاستعمار، وفي سبيل التحرر والاستقلال. . في هذا المناخ فإن التأثير كان كبيراً على عدد من القادة الجزائريين، وأبرزهم الرئيس بن بلة الذي يعدّ قومياً، بينما كان الخط القطري، أو الجزائري يجد كثيراً من مؤيديه الداخليين بوساطة تركيبة الجزائر الديموغرافية من جهة، ونتاج التركة الاستعمارية الطويلة من جهة أخرى. ولذلك يمكن قراءة مرجعيات انقلاب بومدين على الرئيس بن بلة ضمن ذلك الصراع، وتجلياً له، على الرغم من أنه لم يعلن، واستبدل بانتقادات أخرى على دور بن بلة وممارساته. . الرئيس بومدين، المعرّب، وخريج الزيتونة في تونس، كان جزائرياً صميمياً، وإن لم يبد عداء ظاهرياً للخط القومي العروبي، لكنه كان يحمل مشروعأً قطرياً جزائرياً بالدرجة الأولى، يمكن ببناء علاقات جيدة مع الأنظمة العربية. خامساً . فرنسا الديغولية وقد باتت الجزائر عبئاً ثقيلاً عليها لا يمكن تحمله، بما في ذلك الخسائر البشرية والاقتصادية، ومواقف الرأي العام الدولي منها بوصفها قوة استعمارية استيطانية غاشمة، قررت الخروج من الجزائر والتوقيع على اتفاقية إيفيان التي حصلت الجزائر بموجبها على الاستقلال التام الذي لم يتخلَّ عن أي شبر من مساحة الجزائر، وإن حملت الاتفاقية كثيراً من البنود السرية التي تمنح فرنسا دوراً متميزاً في الاستثمار والعلاقات الاقتصادية. . أعدّت فرنسا قبل خروجها ما يعرف بدفعة لاغوس التي تتلخص بتجهيز آلاف الإطارات الحاملة لشهادات فرنسية، والمدرّبة جيداً لاستلام مختلف مفاصل الإدارة الجزائرية، إضافة إلى وجودها الكثيف في المؤسسة العسكرية عبر عدد من الضباط الدين كانوا في الجيش الفرنسي، وتخرجوا من الكليات الفرنسية. . هكذا نلاحظ أن الجزائر المستقلة واجهت إرثاً ثقيلاً من تركة تمتدّ 132 سنة من استعمار استيطاني عمل على تدمير الهوية والثقافة واللغة الوطنية وإبادتها، وترك البلاد قاعاً صفصفاً من الإطارات، وبما يهدد هويتها العربية الإسلامية، وبما فتح المجال لصراعات مستمرة بين ما يعرف بالفرانكفون المسيطر على مفاصل الدولة والمعربين الذين ظلوا مهمّشين، بعضهم التحق بهؤلاء لتأمين مكان له، وتفاعل هذا الصراع بأوجه كثيرة تاركاً ظلاله على طبيعة السلطة، والمؤسسة العسكرية. البومدينية في 19 حزيران/ يونيو 1965 انقلب رئيس الأركان هواري بومدين على الرئيس بن بلة، وأُنشئ ما يعرف بمجلس قيادة الثورة الذي حكم الجزائر بصلاحيات شبه مطلقة للرئيس، ثم بلورة مشروع لبناء قاعدة مادية للجزائر في مختلف المجالات على غرار بقية النظم المحسوبة على حركات التحرر الوطني والقومي، ومن أهم خصائصها: الشمولية، والمركزية، والحزب الواحد القائد، والخطط الخمسية، والفوقية التي ترتكز إلى تنظيمات تابعة للسلطة على حساب مصادرة الحريات العامة والفردية لمصلحة ما يسمى الديمقراطية الشعبية، ويلاحظ هنا أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة كان له دور بارز في الانقلاب والمرحلة التالية بصفته وزيراً للخارجية مدة 14 سنة بوصفه من أقرب المقربين إلى الرئيس. . البومدينية حملت مشروعاً طموحاً لتأسيس دولة جزائرية لم تعرفها الجزائر من قبل وسط اندفاع عاطفي لا يخلو من المبالغة والرغبوية والفرض، ولئن نجحت، إلى حدود معينة في المجال الصناعي وإقامة قطاع عام واسع، وصناعة وطنية مبشّرة، إلا أنها واجهت إخفاقاً مريعاً في ما يعرف بالثورة الزراعية وظهرت تعقيدات بنية متخلفة مناقضة للفعل الفرضي الفوقي، فحالة الوفاء الفجائية للرئيس فتحت المجال لتراجعات متتالية في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد. . لقد فرضت المؤسسة العسكرية، والأمنية الشاذلي رئيساً خلافاً لكل التوقعات، ولمنطق مؤسسات الدولة التي أقامها بومدين، وهو الذي لم يكن يحمل مشروعاً شمولياً كسلفه، وقد ارتبط الوضع الاقتصادي –إلى درجة كبيرة- بحركة أسعار النفط والغاز، بينما بدأت مظاهر الأزمة الثقيلة تبرز في مؤسسات القطاع العام، والترهل في الحزب الحاكم، ما قاد إلى ما يعرف بربيع الجزائر/تشرين الأول/ أكتوبر 1988/ الذي يقال إن أجنحة في السلطة لم تكن بعيدة عنه للخلاص من مرحلة باتت عبئاً ثقيلاً، فكان ما يعرف بالتعددية، والانتخابات التشريعية التي اكتسحت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ الأغلبية، وبما أدّى إلى قطع المسار من قبل المؤسسة العسكرية، وما عرفته الجزائر بالعشرية السوداء. . الرئيس بوتفليقة الذي جاء في أوضاع ضاغطة، وضمن شروط يقال إن المؤسسة العسكرية وافقت عليها نجح في تكريس المصالحة، وفي تجنيب الجزائر ثورة على غرار ثورات الربيع العربي يساعده في ذلك صعود أسعار النفط وتقديم ما يمكن عدّه رشوة للشباب عبر قروض كثيرة لم تثمر، لكن النظام يعاني إشكالاته البنيوية، وقد هرم فعلاً، ووعود بوتفليقة بالإصلاح اصطدمت بالرغبة في البقاء مديداً في الحكم، وتغيير الدستور لمصلحة ترشحه، وزاد الطين بلّة مرضه غير العادي منذ سبع سنوات الذي يمنعه من القيام بأداء دوره في نظام شبه رئاسي يملك الرئيس فيه صلاحيات شبه مطلقة. . بغض النظر عن جملة الأسباب التي تدفع الرئيس إلى البقاء حاكماً، بما فيها التركيبة الذاتية، وقراره ألا يموت إلا وهو رئيس، فإن عقلية الوصي التي تعود إلى سنوات الثورة، وهي الشائعة عند أغلب المجاهدين، تضع فاصلاً بين مؤسسة الحكم وأغلبية الشعب، وبخاصة من الشباب، وتفتح الطريق لتفاعلات شعبية متصاعدة تنتقل بمطالبها من مسائل محددة إلى ترحيل النظام بالكامل، وهو ما يحتاج إلى وقفة خاصة. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى