fbpx

أين سيذهب البشير بالسودان؟

عكست التحليلات والتأويلات التي تناولتها مختلف وسائل الإعلام العربية -لا سيما المعارِضة منها لنظاميّ الحكم في السودان وسوريا- السخرية من زيارة الرئيس السوداني عمر البشير المفاجئة لبشار الأسد، وعدّتها نذير شؤم سيطال الرئيس الضيف، كما حصل مع رئيس جمهورية “أبخازيا” الذي قّتل في حادث سير بعد عودته مباشرة من زيارته للأسد، وكذلك حين تعرض رئيس جمهورية القرم لمحاولة اغتيال بعد عودته من الزيارة أيضاً. الطريف في الأمر أن نبوءات الساخرين ما لبثت أن تحقّقت بعد أقل من يومين من عودة الرئيس السوداني إلى العاصمة الخرطوم، إذ انطلقت التظاهرات في 19 كانون الأول/ ديسمبر من العام المنصرم، لتتطور من احتجاجات طالبت بخفض ثمن الخبز إلى صيحات مطالبة باستقالة البشير وتشكيل حكومة انتقالية تدير البلاد ريثما ينتخب السودانيون رئيسهم الذي يرغبون. فالبشير الذي يحكم البلاد منذ ثلاثين عاماً، كان سبباً في تقسيم السودان، والمساهمة في سلخ جنوبه، وعانى الشعب في عهده الفقر والحرمان، بعد أن كان يُطلق على السودان “سلّة العرب الغذائية”. في أي حال، ساهمت زيارة الشؤم تلك في إبراز ملامح الشَبه العجيب الذي يجمع بين رأسي النظامين السوري والسوداني في عدد من الجوانب الشكلية والبنيوية؛ ومن المحتمل أن تكون جوانب الشبه تلك قد ساهمت بصورة أو أخرى في تكوين العناصر البيئية وتهيئتها جيو-سياسياً لاستقبال “عدوى” النظام السوري وانتشار أعراضها داخل مفاصل نظام البشير وخلاياه، ما أدى في نهاية المطاف إلى انتفاضة الجسد مطالباً بإيقاف تفشّي المرض، وإنقاذ ما تبقّى من أعضائه السليمة داخل المجتمع السوداني. من بين تلك الجوانب على سبيل المثال ما يتعلّق بانتهاك الجغرافيا الوطنية المتمثّل في التخلّي عن أجزاء أصيلة من أراضي البلاد مقابل الاحتفاظ بالسلطة، وإحكام القبضة على بقية الأراضي وشعبها المغلوب على أمره، ومقابل ضمان حماية النظام والحيلولة دون محاسبته على ما ارتكبه من جرائم حرب، وأخرى ضد الإنسانية. كان البشير قد تخلّى عن إقليم جنوب السودان مقابل رفع يد المجتمع الدولي عن ملاحقته فعلياً، أو تسليمه لمحكمة الجنايات الدولية بعد إصدارها مذكرة توقيف في حقّه منذ عام 2009 من جراء الانتهاكات المرتكبة في دارفور، بحسب تقارير المحكمة المذكورة. أما البقعة السورية التابعة شكلياً لسيطرة نظام الأسد، فقد قسّم الأخير أقاليمها وبلداتها بين حلفائه الروس والإيرانيين وحزب الله، لتُدار من قبلهم عسكرياً وأمنياً واقتصادياً، مقابل تأمين الحماية له وضمان عدم تعرّضه للمحاسبة مستقبلاً لمسؤوليته المباشرة عن سفك دماء مئات آلاف من السوريين. وفي جانب آخر، يتشابه الطرفان في آلية إطلاق يد العسكر والأجهزة الأمنية على مفاصل الدولة ومقدراتها. ومن المسلّمات التي لم تعد تحتمل التأويل، ثبوت فشل جميع تجارب الدول والمجتمعات الخاضعة لحكم المؤسسات العسكرية- الأمنية، لا سيما في البلدان العربية. وكأغلب حكّام الأنظمة العربية القلقة، تابع البشير عن كثب تجارب دول “الربيع العربي” وتطوراتها، وما لحقها من انهيار وخراب نتيجة الإصرار على ترجيح استخدام الخيارات العسكرية والأمنية في التعامل مع الشعوب المنتفضة، في ليبيا أو اليمن، أو في سوريا صاحبة النصيب الأكبر من الإبادة والخراب نتيجة الإفراط في استخدام آلة الحرب. وبدل أن يتّعظ من تلك التجارب، راح البشير يمارس سياسة المماطلة والمواربة، والخطابات الرنّانة المتخمة بوعود الإصلاحات، والتهديدات المبطّنة في تعاطيه مع انتفاضة السودان، مقلّداً بالضبط ما فعله كلّ من القذافي وصالح والأسد مع بدء التحضير للحل العسكري، وفي أثناء تطبيقه على شعوبهم. ولعل البشير رغب في تتمة تمثيل الدور بصورة تختلف عن الرؤساء الثلاثة السابقين، فبدأ تلبية رغبة من رغبات المحتجين السودانيين المتمثلة في إقالة الحكومة المركزية. لكنه بدل السعي لتشكيل حكومة تكنوقراط أو أي حكومة أخرى يختارها الشعب، عين 16 من ضباط الجيش إضافة إلى آخرين من الجهاز الوطني للاستعلامات والأمن، ولاة لولايات السودان الـ18. مع إجراءات أعلن البشير عنها في 22 فبراير/ شباط الماضي، أي بعد مضي ما يقارب شهرين ونيفاً على اندلاع الاحتجاجات، مثل فرض حالة الطوارئ في السودان لمدة سنة، وحظر التجمعات غير المرخصة، والأمر بإنشاء محاكم طوارئ خاصة. ذلك كله مقابل تأجيل التعديلات الدستورية التي كان من يفترض أن تسمح له الترشح لولاية جديدة في انتخابات الرئاسة عام 2020، في إشارة التفافية توحي بتخليه عن السلطة مع انتهاء مدة ولايته. إلا أن السودانيين لم ينسوا ما حصل في سبتمبر/ أيلول 2013، حين اندلعت الاحتجاجات بسبب ارتفاع أسعار المحروقات وسوء الأوضاع المعيشية، ما دفع البشير وقتها إلى إعلانه عدم رغبته في الترشح لمنصب الرئاسة في انتخابات عام 2015. لكنه كذب عليهم. وعلى الرغم من تلك المؤشرات المؤكِدة لتبنّي البشير خيار العسكرة بصورة لا تقبل الشكّ، يصمّم السودانيون اليوم، وبوعي منقطع النظير، على استمرار انتفاضتهم متمسكين بخيار التظاهرات السلمية التي تشرف على تنظيمها النقابات المهنية والفاعليات الثقافية والعلمية، إضافة إلى عدد من أحزاب المعارضة التي أَبتْ إلا أن تصطفّ إلى جانب الشعب ومشاركته مطلبه الوحيد: التغيير. فهل سينجح السودانيون في الخلاص من نظام البشير، أم ستكبر المواجهة مع النظام من دون معرفة حدودها؟. إن الشعب السوداني سينجح في حالة تمسكه بسلمية الاحتجاجات من دون السماح بتحولها إلى مواجهات عنيفة، إذا اكتفى بالنظر قليلاً إلى تجربتنا في سوريا، وأصرّ على عدم الوقوع في مصيدة عسكرة ثورته. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى