fbpx

هل وضعت تركيا نفسها في مأزق؟

يجد الأتراك اليوم أنفسهم في موقف لا يُحسَدون عليه نتيجة المضي بعيداً في العلاقات مع روسيا سياسيّاً وعسكريّا واقتصاديّاً، فهذه العلاقة أثّرت سلباً على علاقتها مع الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، فتركيا عضو في الناتو وحليف تقليدي للولايات المتّحدة، ويصعُب عليها بناء علاقات متينة مع الروس والأمريكان في آن، ولن يقبل الغرب من تركيا مبرّر “السيادة” فالعلاقة بين الدّول محكومة بالمصالح، وكلمة “السّيادة” كلمة نسبيّة فضفاضة يستخدمها السّياسيون لتحقيق مصالحهم غالباً، فلا معنى لسيادة بلد ما في ظل انهيار اقتصادي، وتفشي الجريمة، والجهل وتدهور الوضع الخدمي “التعليم، الصحة”. فالمصلحة التي تحقّقها الأمّة هنا مقدمة على شعار السّيادة بل هي السّيادة الحقّة. وبالعودة للعلاقات الرّوسيّة ينبغي التّذكير أنّها أخذت بالتّنامي المتساوع عقب حل مشكلة إسقاط قوّات الدّفاع التّركيّة في 24 تشرين الثاني 2015م طائرة سوخوي 24 الرّوسيّة إذ اتّخذ الغرب حينها موقفاً سلبيّاً تجاه تركيّا ولم يقدّم لها الدّعم الذي كانت تنشده من حلف الناتو، ولعلّ أكثر ما آلمَ تركيا وأوجعها رفض الناتو تزويدها بمنظومة دفاع جوي، ورفض إقامة منطقة آمنة شمال سورية خارج إطار مجلس الأمن، دفع هذا تركيّا لانعطافة حادّة تجاه الرّوس ليصبح الطرفان شركاء على الجغرافية السّوريّة سياسيّاً وعسكريّاً من خلال مسار أستانة، فأطلق الأتراك في 24 من شهر آب 2016م عمليّة درع الفرات طهّرت تركيّا بموجبها الريف الشّمالي لحلب من تنظيم الدّولة الإسلاميّة “داعش”، وليطلق الأتراك لاحقاً بالتّفاهم مع القوى الدّولية والرّوس تحديداً عمليّة “غصن الزيتون” في 20 كانون الثاني 2018م حيث تمّ طرد قوّات الحماية الكرديّة من عفرين، ووأد الحلم الكردي الهادف وقتها وصل عين العرب “كوباني” بعفرين. وتتابعت لقاءات أستانة، والقمم الرّوسية التّركيّة إذ يأمل الجانبان أن يتجاوز التبادل التجاري بينهما 100 مليار دولار فقد وصل حجم التبادل التجاري بين تركيا وروسيا خلال الشهور الخمسة من عام 2018 11.3 مليار دولار، وتعد تركيا رابع أكبر شريك تجاري لروسيا، ويأمل الأتراك الحصول بالمقابل على منظومة S400 الرّوسيّة وتشكّل هذه الصّفقة إحدى نقاط الخلاف الرّئيسة بين تركيا والولايات المتّحدة، فالخلافات مع الغرب آخذة بالتّزايد ولا سيما بعد اتهام تركيا لبعض أطراف في الغرب بالمحاولة الانقلابيّة، وتبقى قضيّة دعم قوّات الحماية الكرديّة النّقطة الخلافيّة الأبرز بين الأمريكان والأتراك. ويبقى السّؤال الرّئيس ما الفوائد التي سيجنيها الأتراك من المضي مع الرّوس بعيداً سياسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً ؟ تشير لغة الأرقام لخسارة كبيرة ستلحق تركيا إذا مضت في هذا السيناريو، ولاسيّما إذا أخذت العلاقات التّركيّة الرّوسيّة طابعاً استراتيجيّاً فما زالت العلاقات رغم تقدمها يحرص الأتراك على موازنتها مع العلاقات مع الغرب إذ يدرك الأتراك قبل غيرهم مخاطر هذا الأمر وعواقبه الوخيمة. فمن النّاحية السّياسيّة لا يملك الرّوس ما يقدمونه للأتراك، فتركيا الأقرب للديمقراطيّة الغربيّة تختلف مع روسيا في ملفات سياسيّة كثيرة سواء في سورية القريبة أو غيرها، وثمّة رفض شعبي وسياسي يمنع الابتعاد عن الغرب بل قد يدفع التّقارب التّركي الرّوسي لانشقاقات داخل حزب العدالة والتنمية نفسه، وربما هذا ما يفسّر التعامل الهادئ للغرب مع تركيا لإدراكه عبثيّة الابتعاد عنه، ولا يُستبعد هنا انقلاب عسكري تدعمه قوًى سياسيّة إذا حصل ابتعاد حقيقي. أمّا اقتصاديّاً فإنّ التّبادل التّجاري مع الغرب يفوق الميزان التّجاري مع الرّوس فالتبادل التجاري مع الولايات تخطّى عتبة 20 مليار دولار، ويؤكد جيمس جونز رئيس المجلس التنفيذي للمجلس التركي الأمريكي أنّ حجم التجارة سيصل 75 ملياراً مع توقيع اتفاقيّة التّجارة الحرّة، ناهيك عن التّبادل التّجاري مع بقيّة دول أوربا حيث يشكّل التّبادل التجاري مع دول الاتّحاد الأوربي 40% من حجم تجارة تركيا الإجماليّة، وقد وصل التّبادل التّجاري مع ألمانيا وحدها قرابة 38 مليار دولار عام 2018 وفق تصريح وزير الخزانة والمالية التركي، فلا مجال للمقارنة على مستوى الكم والكيف بين روسيا والغرب، ولعلّ انخفاض قيمة الليرة التّركيّة يعطي مُؤشراً واضحاً لحجم الضّرر الذي سيحلّ بالاقتصاد التّركي. أما عسكريّاً فإنّ سلاح الجيش التّركي غربي بامتياز 49% من طائرات تركيا الحربية والمدنيّة والمروحيات تأتي من الولايات المتحدة، و27% من فرنسا، و16% من ألمانيا، وفي عمليّة جرد للسلاح التّركي فإنّ صفقة S400 لا تعدل شيئاً مقارنة مع حجم التّعاون العسكري مع الغرب، ولا يغيب هنا الإشارة لعضويّة تركيا في حلف الناتو. لا يخفى عن صاحب القرار التّركي هذه الأرقام والمؤشرات، ولكنّ ذلك لا يعني بالضّرورة ابتعاد تركيا عن روسيا فذلك يتنافى مع المصلحة القوميّة التّركيّة غير أنّ العلاقة مع الرّوس لن تذهب أبعد من ذلك، وستراعي مصالح الحلفاء الغربيين، وغير ذلك انتحار سياسي لحكومة أردوغان التي -وفق اعتقادنا- قرأت وستقرأ جيداً نتائج الانتخابات البلديّة، فأيّ انهيار اقتصادي سينعكس حتماً على صندوق الانتخاب الذي لن تُرضيَ نتائجه حينها السّلطة القائمة، ويدرك الجميع وفي مقدمتهم الأمريكان قواعد اللعبة وحدودها ومآلاتها، تماماً كالرّوس الذين يهدّدون بين فترة وأخرى بملف إدلب، في الوقت الذي يمسك الأمريكان بملف الكرد، فكلّ التّجاذبات الحاليّة قائمة على تحقيق ما يمكن من مكاسب، لكنّ المفاجآت تبقى واردة. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.''

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى