fbpx

التصوف في غزة.. هروب من حياة السياسة إلى حياة الروح

في ظل ما يعانيه قطاع غزة من حصار إسرائيلي مطبق منذ 13 عاماً، وتواصل الانقسام الداخلي بين قطبي السياسة الفلسطينية حماس وفتح، واستمرار التراشق الإعلامي والسياسي بين الفصائل الفلسطينية يضطر المئات من الشباب وكبار السن للهرب من ذلك الواقع إلى ما يطلق عليه في فلسطين بـ”الحضرات” الصوفية. والحضرات هي عبارة عن جلسات في بعض المساجد أو الزوايا المنتشرة في قطاع غزة، يجتمع بها العشرات من المريدين يرددون الابتهالات والأناشيد الدينية مستخدمين أدوات موسيقية كـ”الدفوف والصاجات” وتشتهر في الأراضي الفلسطينية بشكل عام وقطاع غزة بشكل خاص طرق صوفية عدة أهمها؛ الرفاعية والنقشبندية والقادرية والشاذلية والمحمدية والبدوية والعلاوية. ما يميز تلك الطرق أنها بعيدة كل البعد عن الأحزاب السياسية والحركات الإسلامية الفلسطينية، التي تشهد صراعاً فيما بينها، وتقيم العديد من تلك الطرق جلسات تصوفية يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وتبلغ ذروة أنشطتها خلال شهر رمضان، والمولد النبوي من كل عام. زوايا وحضرات مراسل مرصد “مينا” زار إحدى تلك الزوايا التي تقع في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة والتي تتبع الطريقة الرفاعية ويرأسها الشيخ “نبهان البابلي” الذي أخذ رئاسة الطريقة الصوفية الرفاعية، ولقب بـ”شيخ الطريقة الرفاعية” في فلسطين بعد وفاة والده الملقب بـ”الزين”. الأضواء الخضراء والرايات الكبيرة التي تغلب عليها الزركشة والتطريز والآيات القرآنية والمدائح النبوية أهم ما يميز تلك الزاوية التي تقيم ما يسمى بـ”حلقة الدروشة” من كل يوم خميس، تضرب بها الدفوف والصاجات ويعلو صوت المديح من أفواه المريدين الذي يصطفون بشكل متقابل وتتشابك أيدهم ويبدؤوا بهز رؤوسهم يميناً ويساراً مع الابتهالات التي يذكرونها. لحظات من بدء الحلقة ويشرع نبهان أو أحد المقربين منه بتمرير يده اليمنى على صدر كل مريد، بهدف جلاء صدورهم من الهم، فيما يقوم غالبية المريدين بتقبيل يد الشيخ طلباً للبركة منه وتجديد الولاء له. المريد والعهد عبد الرحمن صالح أحد من يطلق عليهم بـ”المريدين” يقول لمرصد “مينا”: “الطريقة الرفاعية هي إحدى الطرق الصوفية التي تنتشر في فلسطين، ينتمي فيها المريد إلى شيخه الذي يطيعه في أمره ويكتم سره لأن ذلك من الآداب التي يتعلمها المريد منذ دخوله لأي طريقة صوفية، ويتلقى العهد عن شيخه”. ويضيف: “العهد أو البيعة التي تكون بين شيخ الطريقة ومريده هي بمثابة اتفاق يلتزم فيه المريد بفعل العبادات وترك المعاصي واتباع طريقة الشيخ والالتزام بقواعد وآداب الطريقة، والمداومة على الأذكار الدينية التي يتلقاها عن شيخه”. وأوضح أن ما يميز الطرق الصوفية عن غيرها من الأحزاب الدينية هو سمو روح المريد من حياة الدنيا وكدرها إلى منازل ومرتقيات أخروية، فيصبح ينطق المريد بالله ويبصر بنور الله، ولا يصل إلى تلك الدرجة إلا بعد أن يطهر روحه من شهوات الدنيا، ويواصل على الأذكار والعبادات التي تعلمها من شيخه. الاهتمام بالروح وعلى بعد بضعة كيلو مترات عديدة من الزاوية الرفاعية تقع زاوية “أهل الله” التي تتبع للطريقة الشاذلية أو العلاوية في حي الزيتون جنوب مدينة غزة، والتي يرأسها الشيخ “محمد الهادي السعافين”، والذي تولى المشيخة بعد والده الذي توفي نهاية عام 2017. يقول أحد المنتسبين لتلك الطريقة والذي طلب عدم ذكر اسمه، -احتراماً كما يقول لشيخه الذي لا يحبذ الظهور على وسائل الإعلام-: “التصوف كمبدأ جاء ليعزز القواعد الشرعية الإسلامية ويطهر روح الانسان من المعاصي والذنوب ويقيدها بالتكاليف الشرعية من صلاة وذكر لله”. ويضيف: “ما يميز اجتماع الأتباع في الزاوية التي نقيم بها الجلسات والحضرات هي ذكر الله بعيداً عن أي خزعبلات أو دق للطبول وضرب الصاجات كما تفعل بعض الطرق الصوفية”، بالإضافة إلى البعد عن ما يشاع من التبارك بشيخ الطريقة. وشدد على أن طريقتهم تركز بشكل أساسي على إعداد وبناء الفرد أو التابع روحياً وتحصينه من أي أفكار بعيدة عن الدين الاسلامي، هذا بالإضافة إلى بعد الطريقة ومريديها عن السياسة التي فرقت بين أبناء الشعب الفلسطيني وأضرت بالقضية الفلسطينية. وبين أن الكثيرين من أبناء قطاع غزة، وتحديداً فئة الشباب يأتون إلى الزاوية من كافة مناطق قطاع غزة للمشاركة في الحضرات التي يقومون بها، وذلك بهدف تطهير أرواحهم وذكر الله في ظل حالة الكبت والضغط النفسي الذي يعاني منه غالبية سكان قطاع غزة. المجلس الصوفي الأعلى ونتيجة انتشار الطرق الصوفية في الأراضي الفلسطينية بشكل واسع منذ قيام الدولة العثمانية التي ساعدت ونشرت تلك الطرق الصوفية، تأسس المجلس الصوفي الأعلى في فلسطين عام 1996، بدعم من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، فيما تقدر بعض الدراسات العلمية عدد المنتسبين للطرق الصوفية في فلسطين بالآلاف. لا يُخفي بعض جيران تلك الزوايا حالة الخوف التي تنتابهم من تلك الزوايا جراء ما يشاع عنها منذ القدم أنها مكان لإخراج الجن من أجساد بعض المرضى، أو لمعالجة من يصابون بالمس، فيما يقول آخرون إنها أماكن تجمع بين طياتها البدع التي لم يقرها الدين الإسلامي. تاريخ الصوفة في فلسطين “عماد الفالوجي” مدير مركز آدم لحوار الحضارات والمختص في شؤون الجماعات الإسلامية ذكر في حديث لمرصد “مينا” أن الصوفية لها تاريخ طويل وقديم في فلسطين، وانتشر بين السكان أن شيوخ تلك الطرق يقومون ببعض الكرامات في شفاء المرضى أو إبطال الحسد والعلاج بالقرآن. وبين أن بعض الطرق كانت تستخدم الشعوذة والسحر في الحضرات التي تقوم بها، إلا أن تلك الطرق تلاشت مع انتشار حالة الوعي بين السكان، وبقيت الطرق الصوفية التي تركز على حلقات الذكر والابتهالات والسمو النفسي وتحديداً في المناسبات الإسلامية كالمولد النبوي. واعتبر الفالوجي أن ما يميز تلك الطرق هي بعدها عن السياسة في الأراضي الفلسطينية، وتركيزها في تربية الأتباع على الجانب الروحي، فهي ترى أن السياسة تلوث ما يقومون به من تطهير النفس من كل ما يربطها بالدنيا وذنوبها، وهو ما جعل علاقاتها مع السلطة والأحزاب السياسية الفلسطينية جيدة ولكن بعيداً عن احتكاك أي طرف في عمل الآخر. لا رهبانية في الإسلام ورغم اجماع كثير من علماء المسلمين أنه لا رهبانية في الإسلام، ولا يوجد في التاريخ الإسلامي ما يدل على الاعتزال عن الواقع بشكل يؤدي إلى انقطاع الانسان عن محطيه الذي يعيش به، إلا أن بعض تلك الطرق تدعو إلى ذلك. وفي ظل الجدل الدائر بين اتباع الصوفية لمنهج النبوة التي جاء بها سيدنا محمد عليه السلام، وبين الابتداع الذي تقوم به بعض الطرق، لا سيما في جانب الإذلال الذي يقوم به بعض مشايخ تلك الطرق للمريدين بحجة الولاء، والشعوذات التي يقوم بها بعض المشايخ، فإن الصوفية تبقى إحدى الوسائل التي لجأ إليها الغزيون للهرب من حياة السياسة التي أرهقتهم. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى