fbpx

الشعوب القوية

في يوم 27 نيسان 1969 طرح الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول استفتاءاً على الفرنسيين من أجل اصلاحات  تتعلق بمجلس الشيوخ وسلطة المحافظات . رفض الفرنسيون اقتراحات ديغول بنسبة 52 % . استقال ديغول إثر الاستفتاء . كان الجنرال قائداً للمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني  بالحرب العالمية الثانية ، وكان مؤسساً للجمهورية الخامسة عام 1958 التي انتشلت فرنسا من أتون لهب حرب الجزائر . انصدم ديغول بثورة أيار 1968 التي انطلقت في الجامعات الفرنسية من قبل الطلاب ضد السلطة الفرنسية . أراد من خلال الاستفتاء القيام بإصلاحات بنيوية في نظام الدولة الفرنسية مستخلصاً بعض دروس أيار 1968 . عندما ذهب  لعزلته في قريته قال العبارة التالية:” كيف يمكن حكم أمة لها ثلاثمئة نوع من الجبنة ” . طلب في وصيته أن لايحضر جنازته أحد من السياسيين والمسؤولين(توفي في 9 تشرين ثاني 1970) . على الأرجح أن العبارة الأخيرة تعبر عن ضيق زعيم من أكثرية شعب قاد سلطة دولته لعقد من الزمن ، إلا أنها تعبر عن ألم شخص كان أهم سياسي فرنسي أعطاه القرن العشرون من الخذلان الذي قدمته نتيجة الاستفتاء . كان الفرنسيون قد فعلوا نفس الشيء مع رئيس وزرائهم  جورج كليمنصو الذي قاد نصرهم على الألمان في الحرب العالمية الأولى بعد سنتين من انتهاء الحرب . يمكن هنا استذكار ما فعله البريطانيون مع رئيس الوزراء ونستون تشرشل أيار 1940- تموز 1945،الذي قاد بريطانية في أحلك ظروف الحرب مع الألمان واليابانيين وقادهم للنصر بالتعاون مع واشنطن وموسكو على هتلر (استسلمت اليابان في 14 آب 1945) ، ولكن في انتخابات البرلمان البريطاني في تموز 1945 ، بعد شهرين من استسلام الألمان،أسقط البريطانيون تشرشل وحزب المحافظين  وجاءوا بحزب العمال وزعيمه كليمنت إتلي .

استذكر تشرشل عبارة للكاتب الإيطالي فرانشيسكو بيترارك (1304- 1374) لتفسير هزيمته الانتخابية:”الشعوب القوية دائماً ماتتسم بالجحود تجاه زعمائها”.على الأغلب أن عبارة بيترارك هي التي تفسر حالات كليمنصو وتشرشل وديغول . يمكن إضافة حالة رابعة هنا:كان دافيد بن غوريون المؤسس الفعلي لدولة اسرائيل عام1948بعد أن تولى رئاسة اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية عام1935وهو من  قادها للنصر العسكري في حربي 1948 و 1956(نعم نصر اسرائيلي في حرب 1956:اجتياح سيناء واحتلالها . مقابل الانسحاب أخذ بن غوريون حرية الملاحة للسفن الاسرائيلية في مضائق تيران)،وهو باني مؤسسات الدولة الاسرائيلية وهو مهندس علاقاتها الدولية . في عام 1960 تكشفت ملامح لما يسمى بـ (فضيحة لافون)حيث انكشف أنه كان هناك تزويراً لتوقيع وزير الدفاع بنحاس لافون على وثيقة الأمر للمجموعات اليهودية المصرية المرتبطة بالاستخبارات العسكرية الإسرائيلية للانطلاق في عمليات تفجير للمصالح البريطانية والأميركية في صيف1954من أجل تخريب المفاوضات المصرية – البريطانية من أجل جلاء البريطانيين عن منطقة القناة . كان هناك ضباط كبار بتشجيع من بن غوريون قد قاموا بذلك التزوير من دون علم لافون الذي كان معارضاً لتلك العمليات . لما انكشفت ملامح الفضيحة بدأ تمرد قطاعات واسعة من حزب(الماباي)الحاكم ضد رئيس الوزراء بن غوريون ، وخلال ثلاث سنوات في الشوارع والأماكن العامة كان يرمى رئيس الوزراء بالبيض والبندورة ، حتى اضطر للاستقالة عام 1963 والذهاب إلى عزلته  في مستعمرة(سيدي بوكر)بصحراء النقب حتى وفاته في 1 كانون أول 1973.

يمكن إيجاد حالة معاكسة  عند العرب الحالات الأربعة المذكورة : بعد دقائق من استقالة الرئيس المصري جمال عبدالناصر في يوم الجمعة 9 حزيران 1967 بخطاب متلفز نزل الملايين للشارع في مصر وفي الكثير من المدن العربية مطالبين عبدالناصر بالرجوع عن الاستقالة . كان عبدالناصر قد استقال إثر الهزيمة العسكرية أمام الاسرائيليين الذين اجتاحوا قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء ووصلوا للضفة الغربية لقناة السويس . كان البكاء طاغياً في تلك المظاهرات المصرية والعربية الرافضة للاستقالة ، في حالة أشبه ببكاء الأطفال عندما يتركهم الأب ويهم بمغادرة  المنزل قائلاً بأنه ذاهب من غير رجعة. أصيب العالم بالذهول من منظر 9 يونيو 1967. بعد شهرين وعند وصول الرئيس عبد الناصر للسودان لحضور مؤتمر القمة العربية بالخرطوم قام السودانيون بانزال الرئيس السوداني إسماعيل الأزهري من السيارة التي كان بها مع الرئيس المصري ثم قاموا بحمل السيارة وبداخلها عبدالناصر كيلومترات طويلة من مطار الخرطوم إلى قصر الضيافة في قيظ شمس آب بالعاصمة السودانية.

منذ شهرين أخبرني صديق بأن والده،وهو من كبار قضاة المحاكم السورية،عندما كان يبكي لوفاة الرئيس جمال عبدالناصر في 28 أيلول 1970،كان يردد العبارة التالية : ” لمين تاركنا؟…” . استحضر هنا ذكرى شخصية : كنت برفقة أقارب نمارس السباحة عند الرمل الجنوبي باللاذقية عندما استمعنا لإذاعة صوت العرب تذيع بنشرة أخبار الواحدة والنصف خبر اعدام سيد قطب . للتو قام أحد الأقارب وهو من جماعة الإخوان المسلمين بشتم عبدالناصر وهو ماأدى إلى اشتباك بالأيدي وشتائم مع قريب آخر كان ناصرياً . بعد عشرة أشهر عندما استمع ذلك القريب وكنت بجواره لخطاب استقالة عبد الناصر بكى بحرقة ثم عاد لشتمه بعد أسابيع قليلة وهو ما تكرر  بنفس السيناريو في يوم 28 أيلول 1970 والأسابيع التي تلته.

مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا”

هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.

حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى