fbpx

الإســلامويون والـديـمقـراطـية

وحدة الدراسات التنويرية في المرصد الديمقراطية ومستحقاتها ما تزال مثار جدل دائم في عقلية الإسلام السياسي بكافة مدارسه وأفرعه بما فيها تلك التي تدّعي عدم تعارضها مع طروحاتها ومخرجاتها من خلال أفكار مستوحاة من تفسيراتهم للفقه الإسلامي، لا بل يذهب بعضهم إلى وجود جذر الديمقراطية في أصول الإسلام السياسي من خلال مقارنات غير موفقة مع الفكرة التي ينسبها فقهاء القانون والسياسة والتاريخ جذرها وأصولها إلى العالم الغربي على اعتبارها إغريقية المنبت وتطورت في القرون الحديثة في أعقاب ثورات العالم الغربي من جهة، و “الشورى” باعتبارها معطى إسلامي (ديمقراطي) من جهة أخرى. بإسقاط تلك المقولات واستتباعاتها على مناطق عديدة متفجرة في منطقتنا العربية، نجد أن العقل الإسلاموي المتشبث بصورة معينة للحكم والسلطة؛ لم يزل يلعب دور الكابح لاحتمالات متضائلة باستمرار صوب أي تحول ديمقراطي مأمول في مستقبل المنطقة. ذلك أن الكثير من الإسلامويين ينبذ الديمقراطية كليّاً ودون مواربة على أُسُس فقهية مأخوذة من تفسيرات الإرث الفقهي الإسلامي معتبراً إيَّاها ضرباً من “الكفر” على قاعدة أن المبدأ الديمقراطي المتمثل في حكم الشعب بوصفه معطى بشري ينفي السيادة الإلهية الكليّة على حياة الإنسان من خلال فهمه وترويجه لبدعة (الحاكمية) ولوي عنق النصوص الواردة فيها باتجاه سياسي سلطوي؟! والنصوص أبداً لم تذهب مذهب دعاة الإسلام السياسي. وهذا ما يروج له دعاة التيارين السلفي والجهادي. في حين يقبل آخرون الديمقراطية باعتبارها “رديفاً” مناسباً للشورى الإسلامية كما نوهنا آنفاً، وذلك عبر تبنّي حكم الشعب ضمن قيود معينة. يندرج تنظيم “الإخوان المسلمين” ضمن هذه الفئة الضبابية بطبيعة الحال، التي تقبل -أو تدعي أنها تقبل- الديمقراطية طالما أنها لا تنتهك الشريعة الإسلامية، ويعتبرونها مدخلاً إلى تأسيس الدولة الإسلامية المستقبلية. يميل خطاب “الإخوان المسلمين” حول الديمقراطية إلى المبالغة في التشديد على الجوانب الديمقراطية الإجرائية، فيما يقومون بتقييد الحريّات باسم الإسلام، ويشترطون أن يحدّدها الإسلاميون أو الدولة أو هيئات الفقهاء بشكل سلطوي. يطرح هذا الأمر معضلة. إذ يمكن لإشراك “الإخوان” في السياسات الديمقراطية أن يؤدّي لاحقاً إلى نظام قائم على الديمقراطية الانتخابية اللاليبرالية، تستخدم فيه الدولة سلطتها لتفرض قيماً معينة على مواطنيها وتقوّض منظومة الحريّات والحقوق، والضوابط والتوازنات المؤسسية. هذه هي الإشكالية التي أودت بهم في أكبر معاقلهم (مصر) في أول تجربة قصيرة أثبتت فشلها في إدارة الدولة والمجتمع. يقضي المبدأ الديمقراطي بعدم  إقصاء هذه “الجماعة” ذات الشعبية النسبية في مجتمعات محافظة من الحياة السياسية بالقوة، ناهيك عما قد يترتب على ذلك من احتمالات زعزعة أي تحول ديمقراطي مرتقب لصالح مجموع الشعب في هذا  البلد أو ذاك. لكن المنطقة الرمادية التي تقف فيها جماعات الإسلام السياسي غير الرافضة لخوض لعبة الديمقراطية من مدخلها الشكلي (الانتخابات كآلية للوصول إلى السلطة) دون جوهرها (قيم الديمقراطية من التعددية والمساواة والحريات العامة والتداول السلمي للسلطة.. إلخ…)، كانت العقبة أمام أي تحول داخل بنية هكذا جماعات قبل أي صيرورة أخرى تدعي أنها ستعمل عليها صالح الشعب. وما ساعد على دخول هؤلاء في معركة هي في واقع الحال ليست معركتهم (أي الديمقراطية) كونهم لم يكونوا يوماً أهلاً للاستمرار بها -لا مجرد الإعلان الأوّلي بقول خوضها- وفق قواعدها الدنيوية التي أبدعها العقل البشري عبر تجاربه المديدة لعقود وقرون خلت، وليس عبر ادعاءات تراثية ممنوحة لهذه الجماعة أو تلك عل أسس المذهب وتفسيراته التي لا تنتهي، ما ساعد على ذلك هو بشكل أو بأخر النظام النيوليبرالي حول العالم في العقود الأخيرة، مع تفسيره للديمقراطية باعتبارها مجرّد مجموعة من الإجراءات لإدارة الخلافات السياسية الفارغة من أي محتوى اجتماعي-اقتصادي تقدّمي تشاركي. إذ أدت الهيمنة تلك إلى طرح “حلٍّ”: قبول شكلٍ غير ليبرالي لنظام من الديمقراطية الانتخابية الذي يهيمن فيه الإسلاميون، ومن ثم القبول بمطالبات الهوية الإسلامية باعتبارها حقائق ثقافية في المجتمعات الإسلامية. لكن، كما تظهر الأحداث في عموم المنطقة، وتحديداً في مصر بين العامَين 2011 و  2013 (حيث حكم في تلك الفترة جماعة الإخوان المسلمين قبل الإطاحة بهم)، فشلت هذه المقاربة في التصدّي إلى مخاوف الذين سيشعرون بالإقصاء بسبب الإسلام السياسي، وبالتالي اختاروا السلطوية غير الإسلامية باعتبارها أفضل الشرَّيْن، لا سيما وأن تفتقر مصر إلى وسطٍ سياسي محافظ قادر على دمج التقاليد الإسلامية بالحداثة السياسية. وقد أضاع “الإخوان” فرصة ما بعد العام 2011 للبدء ببناء هذا الوسط الذي كانوا هم أنفسهم في حاجة ماسّة إليه. لكنهم مع كل ذلك لم يضعوا المهمة نصب أعينهم لنقص الإرادة والرغبة والقدرة الإيديولوجية اللازمان للقيام بذلك. من الصعب أن نتصوّر بشكل واضح ما ستبدو عليه الحركات الإسلامية أو ما بعد الإسلامية إن صح التعبير، خصوصاً فيما تزداد الشكوك حول السجل الديمقراطي لحزب العدالة والتنمية التركي الذي أُشيد به سابقاً باعتباره “نموذجاً” للّيبرالية الإسلامية. هذا يعني أن المطلوب إصلاحات فكرية أوسع ضمن الإسلام السياسي حول مسألة العلاقة بين الدين والدولة، وهي ليست في متناول اليد بحال من الأحوال. إذ ينبغي التخلّي عن مفاهيم هي على النقيض من كل ما هو عقلي ناهيك عن المبدأ الديمقراطي الأصيل في جوهره، من قبيل مفهوم بدعة “الحاكمية”، فضلاً عن هدف إعادة الخلافة الإسلامية. كما ينبغي عدم الاستشهاد بالدين في خطابات الأحزاب الإسلامية التي قبلت خوض لعبة الديمقراطية حسب قواعدها، لا وفق ما ترتأيه. فمن شأن هذه الحركات الإسلامية الاستمرار في إعلاء ما تراه قيماً إسلامية، لكن باعتبارها فقط تقاليد ثقافية وطنية ملهمة لثقافة الناس لكن لا تفرضها الدولة. من الضروري أيضاً تحقيق الشفافية التنظيمية والمالية، وقطع العلاقات مع الفروع في الخارج، والفصل بين “الدعوي” وبين السياسي. بعبارة أخرى، يمكن للحركة الإسلامية “الديمقراطية” أن تشبه النسخة الغربية من الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا – حركة محافظة ثقافيّاً تنافس على السلطة ضمن قواعد الديمقراطية التوافقية. وقد يكون لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية نموذجاً آخر. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى