fbpx

الإعلام العربي في شرنقة السلطة

لم يعد الحديث عن دور الإعلام في تشكيل الرأي العام محض رأي يمكن أن نوافقه أو نخالفه بافتراض أنه يحتمل الخطأ والصواب، إذ مع ثورة المعلومات وتطور وسائل التكنولوجيا المساهمة في نقل المعلومة بقفزات يمكن وصفها بالهائلة، أصبح الإعلام جزءاً من التنفس اليومي للإنسان الفرد والمجتمعات، فإن كان فاسداً أفسد حياتها، والعكس صحيح إن كان منعشاً. تقول منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) إن “وسائل الإعلام تؤثر تأثيراً كبيراً يشمل ليس فقط تفكيرنا وإنما يمتد كذلك إلى تصرفاتنا”، وتضيف بأن “العولمة ليست محض عملية اقتصادية وتكنولوجية. فالعالم المعولم يعني كذلك زيادة التفاعل بين الشعوب وحرية تداول المعلومات والترابط بين الثقافات”. في هذا السياق يأتي السؤال المشروع: هل كان للإعلام العربي دوره الإيجابي في تكوين بيئة سليمة تتفاعل من خلالها مجتمعاتنا وتنخرط في آلية تفكير بناءة تعطي ثمارها تراكمياً، وهل امتلكنا خبرات تدير مشروعات إعلامية ساهمت في تفعيل ثقافة الفرد والجماعات بوصفها مصادر إغناء للثقافة الكلية وتتفاعل مع بعضها في بوتقة منتجة إيجابياً. كذلك يمكن النظر إلى المشروعات الإعلامية القائمة أو التي ظهرت وعملت مدّة زمنية ثم أغلقت، هل كانت تمول لغرضٍ بناء أم لغايات محددة في صراعات على المجتمعات والجغرافيا في المنطقة وليس لأجلها. يخلص عدد من المهتمين بالشأن الإعلامي إلى أن الإعلام العربي عموماً ظهر في كنف السلطات السياسية، ومُول منها ومن ثمّ هو ناطق باسمها وفاعل لأجلها وغرضه تدعيم تلك السلطات والدفاع عن وجهة نظرها وتسويق المعلومة التي ترغب فيها ومحاربة خصومها أياً كانوا، وهذا يعني ترسيخ أفكار ومفهومات محددة لتصبح حقائق مقابل شيطنة حقائق لتناقضها مع تلك السلطات، حتى لو أدى ذلك إلى تشويه نمو أجيال بأكملها بتقديم معلومة مغلوطة أو التشويش على رؤيتها. عندما جاء البث التلفزيوني الفضائي العابر للحدود بعيداً من الرقابة الصارمة للسلطات السياسية العربية، حاولت تلك السلطات الالتفاف على ذلك في حين أصبح لا بد من المواجهة بمقابلته بافتتاح محطات ظاهرها خاص، وباطنها تابع ومدار بدقة من أجهزة أمنية تعمل بالتنسيق مع وزارة الإعلام التي هي بالأساس مبنية على هيكلية أمنية أو أيديولوجية حادة في رؤيتها، وعلى أداء مهني خبير في توجيه الطاقات الموجودة لتنصهر في بوتقة السلطة لا لتتفاعل من خلال وجهات نظر مختلفة في بوتقة واحدة لتعطي دائما مركبات جديدة وغنية، وهذا الأمر ينطبق مع انتشار الصحافة وتوسعها لتصبح مؤسسات كبيرة في العقود الماضية حيث ظهرت مؤسسات صحافية عدة عملت رديفاً للسلطات السياسية التي تقف خلفها. استطاعت تلك المؤسسات الإعلامية تعويم بعض الشخصيات أو الأسماء لتصبح لامعة وتقدمها على أنها تمتلك الحقيقة، وتستطيع تحليل الأحداث وتقويمها ومن ثم التعليق عليها، ومن ثم تصبح مقولاتها مرجعاً لكثير من المتلقين، ويمكن أن تزوّد ببعض الحقائق من قبل السلطات وإن كانت مغايرة، وذلك لتبرهن على صدقيتها حيث سيكون أثرها جيداً عندما تأتي الحاجة إلى ضخ معلومات إخبارية معينة، عدد من تلك الأسماء التي يفترض أنها أصبحت مرموقة، باتت مسوقاً للحكام وناطقاً باسم السلطة، ثم إن عدداً من المؤسسات الإعلامية الأجنبية الناطقة بالعربية، وقعت أسيرة تلك العلاقات، إذ إن موظفيها أو مديري مكاتبها الإقليميين تجري رعايتهم وترشيحهم من دوائر الأنظمة كي لا يتخطوا الحدود الحمراء، وبهذا لم تقدم تلك المحطات إضافة مهمة إلى الإعلام العربي بل غاصت في النمطية ذاتها. في خلال سنوات ليست بقليلة، ساهم الإعلام العربي في تأسيس تناقضات في النسيج الاجتماعي في المنطقة العربية، وتهدّم في الثقافة العامة، كسبت السلطات السياسية من إدارة تلك اللعبة الإعلامية، إذ كرست عقلية متلقية مُلقّنة لا متسائلة متفاعلة ناقدة، وعوضاً عن تسخير الثقافة لأجل البناء جرى استخدام الثقافات المتباينة لأجل تعميق الصراعات، بما فيها الخطاب الديني الذي بات جزءاً من المشهد الإعلامي، وأصبح الخطاب الديني الدعوي لا يختلف عن الخطاب القومي والاشتراكي لبعض الأنظمة سوى بالمفردات والشعارات المستخدمة، إذ كان الدور واحداً في خدمة قضية سياسية لسلطة قائمة، والنتيجة أيضاً واحدة وذلك بنشوء مجتمعات تأقلمت مع واقعها الفكري والسياسي والاجتماعي وتظن أن تخليها عنه أو نقده وتقويمه هو حالة خيانة أو كفر، وهذا ما ساهم الإعلام فيه من خلال برامجه وأخباره وشخصياته التي جرى تلميعها، والمال الذي ضخ في خدمة هذا الهدف. في كثير من المحطات الزمنية قدم الإعلام العربي خبراً لا يعكس الحقيقة، وأثبت أنه في كثير من الأحيان كان إعلاماً غير موثوق، وعند البحث عن معلومة تخص الصراعات التي عاشتها المنطقة، سنجد أن كثيراً من الأخبار صيغت بطرائق مختلفة ومتباينة، أي إن الخبر الواحد الذي هو حقيقة حصلت بالزمان والمكان والأشخاص، قد تم صيغ بأكثر من وجهة نظر وذلك تبعاً للوسيلة التي بثته وتبعيتها السياسية، وهذا ينطبق حتى على الأخبار الفنية والرياضية والثقافية، بل إن جهداً إعلامياً مكثفاً قد يعمل بنشاط منقطع النظير لجعل حدث فني أو سابقة ما هو الخبر الأبرز في وقت محدد لغايات لا علاقة لها بالموضوع سوى أنه يبعد الجمهور عن الحدث الحقيقي الذي يحدث في مكان ما ولا ترغب السلطة السياسية في أن يصل إلى الجمهور بطريقة فاعلة كي لا يتفاعل معه، فيجري توجيه الرأي العام إلى التفاعل مع حالة أو ظاهرة محددة بالتوازي مع ذلك الحدث. أدى بعض الإعلام العربي دوراً يمكن وصفه بالخطر في تكريس ذهنية يغلب عليها الطابع الانهزامي والاتكالي، في الوقت نفسه هي ذهنية تتعامل مع الآخر المختلف بنظرة فوقية لظنّها بأنها تمتلك حضارة بائدة وثقافة عظيمة وتراثاً غنياً، فتعيش انتصاراتها باستحضار الماضي وهذا ما شكل حالة فصام ذهني يلائم كافة السلطات التي مارست أدواراً ما دون وطنية في إدارة شؤون المجتمعات التي تحكمها. بالتوازي مع انتفاضات الربيع العربي خلال السنوات الثماني الماضية، ظهرت مئات المشروعات الإعلامية المطبوعة والمرئية والمسموعة والإلكترونية، ولم تستطع أي وسيلة منها الادعاء بأنها استطاعت أن تكون حيادية وتمثل صوت الناس في خدمة الحقيقة، وأن تصل إلى شرائح عدة ومختلفة بخطط مهنية مبنية على خطوط عريضة واضحة، بل يمكن القول إنها ساهمت هي الأخرى في تأجيج الصراعات والتباينات بين المكونات الاجتماعية والثقافية، ولم تحلل الأحداث بمعايير سليمة، وكان في خلفية بنائها كثير من الأفكار الأيديولوجية التي ظهرت على الرغم من محاولات القائمين عليها إخفاءها أو التمويه بأنهم تجاوزوها بصفتها بنى فكرية، يسارية كانت أم إسلامية أم قومية. وبالعودة إلى يونسكو حيث تقول: “إن هويتنا وطرائق رؤيتنا للواقع مشروطة بمرجعياتنا الثقافية التي تؤثر في نظرتنا إلى أنفسنا، وكيفية تعاطينا مع الآخرين وتفاعلنا مع العالم. وعلى ذلك، تؤثر فينا وسائل الإعلام تأثيراً كبيراً يشمل ليس فقط تفكيرنا وإنما يمتد كذلك إلى تصرفاتنا”. فهل تأتي الفرصة لشعوب المنطقة وترى أمامها مشروعاً إعلامياً مختلفاً في الدور والأداء عما عهدته في العقود الماضية، يساهم في حلحلة أزماتها لكي تنخرط في بناء التنمية بجوانبها كافة لا في تفاقم تلك الأزمات لتصبح وباءات فكرية تذهب بالجميع إلى مصير مجهول. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى