fbpx

نقد البنية التاريخية لأحزاب المعارضة السورية

لا يوجد أدنى شك في أن هيمنة الأنظمة الشمولية على أقطار العالم العربي شكّلت السبب المباشر في انعدام نشوء منظومات مجتمعٍ مدنيّ لدى شعوب المنطقة؛ ساندها بذلك اصطدام تلك المنظومات بالتيّارات والأحزاب الدينيّة على اختلاف مشاربها وعقائدها، لا سيما الإسلاميّة منها بوصفها الأكثريّة في المنطقة. دفع هذا بالمكونات غير الإسلامية إلى انخراط مثقفيها ومفكريها أغلبهم في تكتلات وأحزاب بأيديولوجيات منفتحة على مختلف الديانات والطوائف والإثنيّات لتشكّل بديلاً للأقليّة التي ينتمون إليها من جهة أو لتقويتها في مواجهة الأكثريّة المسيطرة من جهة ثانية. وغالباً ما تنضوي تلك الأحزاب تحت شعارات الوحدة الوطنيّة، والقوميّة والحرّيّات والديمقراطيّة، ونبذ الطائفيّة والمناطقيّة والعشائريّة وهلم جرّا. طُبّق هذا الواقع بوضوح تام داخل سوريا منذ أواسط القرن المنصرم، فإذا تتبّعنا تاريخ نشوء معظم الأحزاب السياسيّة ذات الإطار الوطنيّ أو القوميّ أو الأمميّ، سنلاحظ أنّ أغلب الأعضاء المؤسّسين والمتزعّمين والفاعلين فيها، هم من المكونات الأخرى؛ وغالباً ما كان ينخرط فيها مَن يتّصفون بالتوجّه العلمانيّ عمومًا. شعرت المكونات الأخرى بأنّ انتماءها الوطنيّ يتجلّى من خلال منطلقات أحزابها النظريّة وأهدافها التي غالباً ما تقوم على شعارات رنّانة ذات وقعٍ وتأثير في مشاعر معتنقيها، من وحدة وعدالة وحريّة ومساواة واشتراكية وديمقراطية …إلخ؛ كالأحزاب القومية (البعث والوحدويين وغيرهم من الأحزاب العروبية، والسوريّين القوميّين الاجتماعيّين “القوميين السوريين”). أو الأحزاب اليسارية المتمثلة في التيار الشيوعي وأحزابه التي شهدت عدداً من الانشقاقات. وفي المقابل فإنّ ظهور الحركات الدينيّة الأصولية في المنطقة، كان اعتماده الأساسيّ، بل الكلّيّ، على العنصر الإسلاميّ (السُّنّيّ)، ولعلّ أهمّ تلك الحركات حركة “الإخوان المسلمين”، وحزب التحرير إذ استطاعا التغلغل داخل بعض الأوساط العلميّة والثقافيّة، بل حتى المؤسّسة العسكريّة السوريّة. انفجرت أحداث الإخوان المسلمين التي أطلقتها “الطليعة المقاتلة” جناح الإخوان العسكري، في نهاية سبعينيّات القرن المنصرم، لتمتدّ إلى عام (1982)، بوصفها ردّة فعل على هيمنة المكون (العلويّ) -ممثلاً بعائلة الأسد وقسم كبير من طائفته- على مقدّرات الدولة العسكريّة والأمنية والاقتصاديّة، وإزاحة العنصر السنّيّ عن مراكز القرار داخل تلك المؤسسات، فحصل ما حصل من ردّ وحشي لحافظ الأسد وشقيقه رفعت داخل حماه وحلب وجسر الشغور وسجن تدمر. دخل بعدها التاريخ السوريّ مرحلة من النظام الأمنيّ القمعيّ طوال مدّة حكم حافظ الأسد إلى بداية حكم ابنه بشار، إذ حاول الأخير إيهام العالم والشعب السوريّ، بأنّه يسعى إلى نقل الدولة السوريّة إلى مصافِ الدول المتحضّرة الحرّة، من خلال إطلاق بروباغند التطوير والتحديث، ومكافحة الفساد، وإطلاق الحرّيّات، وتشكيل الأحزاب، والزيادة الشكلية للرواتب، إذ كانت مقرونة على الدوام بارتفاع أسعار الوقود وموادّ المعيشة الرئيسيّة. وقد خُيّل لبعض الشخصيّات الوطنيّة السياسيّة -ممّن عانوا الاضطهاد والقمع أيّام الرئيس الأب- أنّ الابن سيكون مختلفاً عن والده بعد تلك الصيحات الإصلاحيّة، فوقعوا في فخّ “ربيع” دمشق و”إعلانها”، لتبدأ من جديد حملة الاعتقالات التي طالت معظم ناشطي المجتمع المدنّي المشاركين في الإعلان، وليحدث كيْل التهم لهم بالخيانة و”التّخابر مع الخارج” و”زعزعة أمن الوطن وإضعاف الشعور القوميّ والوطنيّ”، وتسميات أخرى ما أنزل الله بها من سلطان. ومع انطلاق انتفاضة السوريّين 2011 برزت شخصيّات المعارضة القديمة، من الداخل والخارج، ومعظمها من حركة الإخوان وحزب العمل الشيوعيّ، ممّن عانوا السجون والاعتقالات والملاحقات الأمنية. وصل تلك الشخصيّات أغلبها؛ إلى تزعّم الهيئات والمجالس والمؤسّسات السياسيّة التي تمثّل المعارضة في الخارج، ابتداءً بالمجلس الوطنيّ مروراً بالائتلاف والحكومة المؤقّتة وصولاً إلى وفد التفاوض، وتلك الشخصيّات معظمها تعرّض لشتّى أنواع التعذيب الجسديّ والنفسيّ في أقبية النظام وسجونه، ما خلق شعوراً فائضاً من الحقد والرغبة في الانتقام من جميع عناصر تكوين النظام، على الرغم من محاولة رموزها إخفاء تلك الرغبة، والتظاهر بالتوازن من خلال خطاباتهم وكلماتهم المنمّقة عبر وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئيّة، إلّا أنّ المتتبّع لأكثر تلك الخطابات يلاحظ الرغبة الدفينة في الانتقام من نظام الطاغية، ولو كان الثمن التضحية بنصف الشعب السوريّ، وتشرّد النصف الآخر وتدمير البلد، فمجريات الأحداث وتطوّرها السريع في سوريّة ما بعد آذار/ مارس 2011، والتركيبة السياسيّة التي واكبتها، ساعدها تقاعس المجتمع الدوليّ عن نصرة الشعب السوريّ، أدى إلى خلق حالة من التطرّف غير المسبوق والمنقطع النظير، ليس داخل وسط الحراك الإسلاميّ فحسب، بل تخطّاه إلى بعض الأوساط التي ادّعت العلمانيّة أو الاعتدال في البداية داخل التشكيلين السياسيّ والعسكريّ، بسبب ما واجهته في الماضي من قمع، وما تواجهه في الحاضر من إهمال الأطراف الدولية الفاعلة وتحكّمها في مصير البلد وأطراف النزاع فيه، فضلاً عن تخوّفها من المستقبل المجهول الذي يهيمن على مؤشّراته رجحان كفّة نظام الأسد على الرغم من مسؤوليته المباشرة عن الكوارث التي عصفت بالبلاد. وهنالك حالة أخرى من أطراف الاعتدال السياسيّ والعسكريّ تمثّلها الشريحة التي لم تتأثّر بسجون الأسد وقمعه، وقضت معظم سنيّ حياتها في دول الّلجوء خلال العقود الأخيرة السابقة للثورة، وتأثّرت بشكل ملحوظ بالفكر السياسيّ- الاجتماعي الغربيّ، محاولة تطبيقه على التجربة السوريّة من دون جدوى، لاصطدامها أيضاً بعدد من مكونات المعارضة التي مررنا عليها، بذريعة أن الثورة قامت على أكتاف الأخيرين وهم أولى بتولي قيادتها وتحديد مساراتها المعقّدة. ووسط المعمعة الحاصلة بين شقّي المعارضة (الإسلاموي والعلماني) يقف الطرف المتمثّل في الشعب السوريّ (الطبيعيّ) بعيداً عن نطاق التغطية، وهمّه الوحيد اليوم الخلاص من حالة الحرب والفوضى، بعد أن ضحّى بأكثر من نصف مليون رجل وطفل وامرأة، ومثل عددهم مفقود أو محجوز داخل معتقلات التعذيب، ونزوح نصف سكّان البلد أو لجوئهم، وضياع النصف الآخر بين الروس والإيرانيين، و”مختار المهاجرين”. فمتى يعي الطرفان أن دولة المواطنة هي الحل؛ وأن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية هي غاية كل مواطن سوري؛ ومتى نخرج من تخندق الإثنيات والطوائف والأيديولوجيات إلى رحابة المذهب الإنساني؟ أسئلة برسم من بيدهم ملفات التفاوض. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى