fbpx

الإسلاميون في الربيع العربي

كان من الصعب، عربياً على الأقل، تقييم عمل الحركات الإسلامية في علاقتها مع الفضاء السياسي والديمقراطي بغياب تجارب الحكم الخاصة بها. إلا أن موجة الربيع العربي، بعد مضي ثماني سنوات على انطلاقته، قدمت إطاراً ممكناً لهذا التقييم يسمح إلى حد كبير بالقول إن هذه الحركات لم تأت بجديد في علاقتها بالمفاهيم السياسية المعاصرة، وأولها الديمقراطية والاقتصاد. المحددات الأساسية لأي تقييم تعتمد على المنجز المتحقق بمختلف جوانبه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مع مراعاة للظروف المحيطة أو الداخلة في تركيبة المنجَز والمنجَز في نفس الوقت، تفادياً لعدم تحميل التجربة والتقييم ما لا يتفق مع منطق الأشياء. الحركات الإسلامية في العالم العربي، عاشت حياتها وهي تصرخ بالمظلومية السياسية طوال قرن كامل، وهي على حق في ذلك، كما كانت كل الحركات والأحزاب الأخرى (غير الحاكمة) تصرخ نفس الصراخ أمام غياب واسع للمفاهيم الديمقراطية الحديثة في تبادل السلطة وفي الحياة البرلمانية الطبيعية، وفي الحق الدستوري بممارسة أنشطتها علانية في أنظمة العالم العربي السياسية المتفاوتة النسب في علاقتها مع الديمقراطية. وهذا يعود في الجوهر، إلى كون الفضاء السياسي العربي بعد خمسينات القرن الماضي، تأسس أساساً على الشرعية الثورية، التي دفنت أساساً الشرعية الدستورية التي حاول عهد الاستقلال الأول أن يؤسسها بعد رحيل الاستعمار، ما يعني أن كامل كل الأحزاب القديمة، هي ابنة هذا الفضاء الثوري القائم أساساً على استخدام العنف في السلطة، إذ لو وصل أي حزب سياسي، سواء كان يسارياً أو قومياً أو إسلامياً، إلى السلطة لكانت النتيجة نفسها، لأن البناء التحتي للسياسة العربية كان مبنياً على هذا البعد. الإسلاميون في الربيع العربي جاء الربيع العربي فقلب الصورة النمطية وأحل بدلاً منها تصورات مختلفة لشعوب قادرة على نقل نفسها إلى لحظة الفعل والتأثير، بالتالي على العالم وخرائطه وأقله صناعة تغيير مضاد لعبثية قرون مضت. أما التالي، فلم يكن ربما مهماً لحظتها، في سنوات الهدوء التالية لطوفان التظاهرات، بدأت الصورة تتضح أكثر فأكثر، وهي إن الإسلاميين والحركات الإسلامية هي المستفيد رقم واحد مما جرى، ولم يكن الأمر مستغرباً في ظل انحسار موجات المد القومي واليساري عموماً منذ أكثر من عقدين، وفي ظل تفاقم الوضع الاقتصادي سوءاً وغياب الطبقة الوسطى تقريباً وهي الحاملة لأي فكر تنويري على العموم. برامج الأحزاب الإسلامية، خاصة الإخوان المسلمين، ركزت دائماً على أنها لن تكون نسخة من أحزاب أخرى وصلت إلى السلطة ولم تقدم أي منجز للشعب، وحملوا على هذه الأحزاب متهمين إياها بخيانة الشعب والثقة الشعبية والفساد وغير ذلك، يصح هذا على الأحزاب التي هي أقرب إلى البراغماتية منها إلى السلفية أو الجهادية التي تتبنى التغيير بالعنف بشكل رئيسي. إلا أن التجارب التي خاضها هؤلاء، خاصة في تونس، أفضت إلى أن السياسة تختلف كلياً عن التنظير لها وللمجتمع في آن واحد، رغم أن إسلاميي تونس معتدلين عموماً، ويختلفون إلى حد كبير عن نظرائهم المصريين. التجربة الإسلامية التونسية وصل الإسلاميون إلى الحكم في بعض الأقطار العربية عبر صناديق الاقتراع للمرة الأولى في تاريخهم الحديث، ونال حزب(النهضة) في كانون الثاني 2011 الأغلبية تقريباً في الانتخابات. ولم تلبث الحكومة أن سقطت بتأثير ضعف أدائها الاقتصادي، لتليها تسع حكومات شكل حزب النهضة فيها جزءاً فاعلاً، وكان عليه بالتالي أن يتشارك مع الأحزاب الأخرى من القوميين والعلمانيين في الحكومة على مبدأ “مكره أخاك لا بطل”. ولعدة مرات تم توزير عدد من الشخصيات الإسلامية من حزب النهضة (الغنوشي) دون أن يكون أدائهم في الحكومة مختلفاً عن غيرهم، في هذا الإطار قال “رفيق عبد السلام”، وزير الخارجية السابق والقيادي في “النهضة” في معرض رده على منتقدي تحالف النهضة مع حزب النداء قولاً مهماً جداً هو: “السياسة ليست نزعة طهورية أو ترذيل للمواقع والمناصب… السياسة لا تخلو بطبعها من المنافسة والصراع على النفوذ والمصالح، ومن أراد أن يدير السياسة بالمنهج (الطهوري) فما عليه إلا أن يلزم بيته أو يلتحق بزاوية صوفية، مع احترامي لأهل التصوّف”، الأمر الذي يشير من جهة إلى نضج سياسي لدى الإسلاميين، ولكن من جهة أخرى، يشير وهو الصحيح، إلى الطريقة التي يدير بها الإسلاميون معاركهم، فهم يدركون اليوم أنهم عاجزون عن الوصول إلى السلطة كلياً، ويدركون أنه يسبحون وسط محيط معادي لهم، شعبياً، ولهذا يعملون وفق مبدأ الخطوة خطوة، أي طمأنة الجميع وإخفاء نواياهم بانتظار اللحظة المناسبة، سيراً على نموذج حزب العدالة والتنمية التركي، الذي يعتبر الملهم الأساسي لتجارب الإسلام السياسي العربية، وعلى رأسها النهضة التي يعتبر زعيمها الغنوشي أحد الأباء الروحيين لأردغان وفق اعتراف الأخير. في تونس حالياً، “يحذّر الخبراء والمراقبون من مخاطر انفجار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في مرحلة توحي فيها كل المؤشرات المالية أن عام 2018 كان صعباً؛ وهو ما يستوجب مزيداً من السياسات والقرارات المؤلمة بالنسبة للطبقتين الفقيرة والمتوسطة، ويستدعي الموافقة على “الإجراءات المؤلمة” المفروضة على تونس من قبل صندوق النقد الدولي، التي تعمل ـ على تقويض ما بقي من القطاع العام وتصفية المكاسب الاجتماعية للتونسيين وسدّ أبواب الرزق أمامهم، وإثقال كاهلهم بالضرائب ورفع الأسعار” (بتعبير التجمع اليساري المعارض) ما يعنينا هنا أن أول الموافقين على هذه السياسات كان وزراء حزب النهضة. ولا بد هنا من الإشارة إلى نقطة هامة كتبها بشير عبد الفتاح، الأكاديمي والباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية تقول: “أن القوى الليبرالية واليسارية التونسية اتبعت منهج الحوار والنضال السياسي الديمقراطي بدلا من التحريض الإقصائي ضد الإسلاميين أو استدعاء الجيش للتدخل في السياسة، وبدلا من ممارسة الضغوط السياسية والدعائية والنفسية على حركة النهضة لحشرها في الزاوية والزج بها في غياهب العنف، فكانت النتيجة أن الحركة ازدادت تمسكا بمبادئ الديمقراطية والدولة المدنية، بل أخذت على كاهلها التصدي لمساعي تيار السلفية الجهادية المتطرف للعصف بمنجزات المرحلة”. تشكل الحالة التونسية نموذجاً مهماً لوصول حزب إسلامي إلى السلطة في العالم العربي الذي طالما خوّفت أنظمته العسكرية شعوبها من “غول الإسلاميين” الذين لم يقصّروا هم في تأكيد الصورة النمطية المتداولة إعلامياً، فهم لم يخرجوا من تابو الماضي في تفكيرهم السياسي وبقيت الدوغمائية خطاً عريضاً لسياساتهم العلنية، ولم يتبرأوا من إرث وصمهم بالعنف الفكري والسياسي لعقود طويلة، حزب النهضة التونسي يشكل حالة مختلفة جعلت من حضوره الإسلامي في الشارع التونسي (المتنور عموماً مقارنة بغيره) مدنياً وقريباً من النمط الحديث للأحزاب العلمانية. ولكن هذا كله يتم في الظاهر، ولأسباب تم شرحها أعلاه، أي وفق مبدأ “يتمسكن ليتمكن” وفق ما نقول في المثل العربي. تجربة الإخوان المسلمين في مصر في مصر مرسي حدث ما هو أسوأ من ذلك، بدأت حملة من المحسوبيات والرشاوي والفساد الممنهج لإدخال “الخبراء الإسلاميين” إلى هيكل الدولة المصرية بصفتهم هذه، وليس بصفتهم تكنوقراط أو أشخاص لديهم الخبرة التي يحتاجها نظام الدولة. ففي محصلة عامين من الحكم الإخواني (تقريباً) زادت حصيلة الدين العام المصري إلى أرقام مرعبة، واليوم يكمل الرئيس الحالي المهمة بمشاريع “عملاقة” دون أي أثر فعلي على الشارع المصري الذي يضم أعلى نسبة فقراء في العالم العربي. وحسب الخبراء فإن الدين العام أثناء حكم المجلس العسكري منذ شباط 2011، حتى منتصف 2012، انخفض بنحو 200 مليون دولار، مسجلاً 34.7 مليار دولار، لكن الدين الداخلي زاد إلى 1.23 مليار جنيه، قبل أن تزيد في عهد الرئيس محمد مرسي حتى 30 حزيران 2013 إلى 1.55 تريليون جنيه كديون داخلية ونحو 43.2 مليار دولار خارجية، بينما واصلت الصعود في عهد الرئيس المؤقت عدلي منصور، إلى 1.7 تريليون جنيه داخلياً و46 مليار دولار خارجياً. أما في عهد الرئيس الحالي فإن إجمالي الدين العام المحلي والخارجي تجاوز 4 تريليونات جنيه (226 مليار دولار) نهاية العام المالي فقط 2016 /2017، كان نصيب السنوات الثلاث للسيسي منها 2.3 تريليون جنيه (129.9 مليار دولار)، حيث تسلم الحكم وكانت ديون مصر تبلغ 1.7 تريليون جنيه. تجربة مصر في التغيير الديمقراطي لم تنجح مثلها كنظيرتها التونسية لأسباب مرتبطة دون شك بكون مصر أكثر ثقلاً استراتيجياً في العالم العربي وأقرب إلى إسرائيل، وعلى الرغم من أن هناك علاقة قوية تربط الإخوان في مصر بالولايات المتحدة منذ عقود إلا أن إسرائيل لا ترتاح لهذا الوجود الإخواني الذي لم يتوانى عن إرسال رسائل مطمئنة دون فائدة، ورغم حضور العلاقة مع إسرائيل في أجندة الانتخابات المصرية إلا أن الإخوان لم يطرحوا فكرة إلغاء أي اتفاقية معها، ولم يكن هاجسهم الديني الذي يعتبر القدس أولى القبلتين وثاني الحرمين مطروحاً للنقاش لكن مع الإشارة إلى حضور الإخوان الطاغي في الشارع المصري وإلى منهجهم السياسي، فإن الغاية الأولى كانت الوصول إلى الحكم دون تقديم برنامج تنموي أو تغييري في الاقتصاد أو السياسة، والاستفادة من ميزات الحكم، بمعنى أخر مختصر، غاية السياسة هي الرئاسة وليست غير ذلك بأي شكل للحركات الإسلامية هذه. هل يتعظ الإسلامويون من تجارب السلطة ما يحدث في تونس، حدث في مصر، وسيحدث في أي مكان آخر يكون فيه الإسلامويون وغيرهم في سدة الحكم، الأمر ليس منوطاً بالدين ليحل محل السياسة، فهناك عالم من التشابكات السياسية والاقتصادية لا علاقة للدين، أي دين بها، بفرض قدرته على مقاربة منظومة الدولة وهياكلها وهو حقيقة غير قادر وبعيد عن هذا الاختراع (بكل أشكاله القديمة والجديدة) ليبدو واضحاً أن الاتكاء على الدين في الانتخابات وفي تهييج الشارع هو أمر غايته واضحة ونهجه يمكن أن يخدع الناس لمرة أو مرتين لكن في النهاية بغياب المنجز الفعلي الذي يلامس الناس سيكون للناس رأي آخر. محاولات الإسلاميين في العالم العربي اللعب على أوتار الحاجة الاقتصادية والسياسية ستنتهي مع تكرار التجارب الديمقراطية ومزيد من الوعي الجماهيري تجاه النفاق السياسي الذي تمارسه كل الأحزاب وليس الإسلامويين ببراء من هذا الأمر لمجرد أنهم إسلامويون يصلون ويصومون، ففي السياسة لا مجال لتداخل الديني مع اليومي، ليس من باب الإبعاد لفضاء عن آخر، بل لأن الدين منظومة ثابتة لها قوالبها وأشكالها التي لا تتفق بمنطق الضرورة والتغيير مع الفضاء السياسي. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى