في فيينا اليوم، ستكون لعبة “المناورة” والبراعة، ففيها لعبة المفاوضات.. في المفاوضات لاتوضع كل الأسلحة على المائدة، ثمة المخفي منها، ومنها المعلن، والمتتبعون لما يحدث في فيينا اليوم، يعتقدون بأنها ستصل إلى ضفة الأمان.
ـ أي أمان؟
الأمان وفق تصوراتهم هو وضع قطار الاتفاق النووي الإيراني على السكة.
سيحدث هذا ولكن بعد استنزاف المتفاوضين، وقبل االانتخابات الرئاسية الإيرانية، دون نسيان أنه ستظهر مشكلات كبيرة وكثيرة، لكن النتيجة معروفة.
ما يحدث في فيينا هو الصورة، ولكن خلف الصورة ماهو أكثر أهمية مما يظهره الإعلام من صور، فعلى الأرجح أن سلطنة عمان نجحت في كسب دور الوسيط المضمون والموثوق بين الاميركيين والايرانيين خلال مرحلة الاعداد للاتفاق الاول، ومن المنطقي ان تكون راعية التواصل الصعب والحذر في المرحلة الحالية، او مرحلة العودة الى التفاهمات.
السلطنة كتومة، لكن ثمة مؤشرات بليغة يمكن التعويل عليها لقراءة الخطوط المبهمة. فاجتماعات فيينا ما كانت لتنعقد لو لم تسبقها تفاهمات ولو بالخطوط العريضة عبر كواليس التخاطب السرية وقد اخذت ممراتها من سلطنة عمان، فالصوت الذي صدر من فيينا جاء نتيجة فعل تحقق في سلطنة عمان، وليست النمسا هي المؤشر الوحيد الذي يمكن البناء عليه، ففي ساحات الشرق الاوسط التي تعقدت فيها الامور واشتعلت طوال الاسابيع الماضية ربما لمواكبة المفاوضات السرية الدائرة في الكواليس، تبدلت الاحوال فجأة.
ـ مالذي تبدل؟
- المعارك العنيفة التي دارت في مأرب، المنطقة الشديدة الحساسية بالنسبة الى السعودية، تراجعت حدّتها فجأة. كان الحوثيون قد باشروا معركتهم للسيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية. من الواضح ان ايران كانت تريد تثبيت معادلة ميدانية لاستثمارها في المفاوضات السرية الدائرة. والأكثر غرابة كان القرار الاميركي الذي سبق وقضى بإنهاء الدعم العسكري للتحالف السعودي في اليمن. وكانت القوات الحوثية تتقدم مع أرجحية عسكرية لمصلحتها. لكن المعارك هدأت فجأة.
- في العراق ثمة انفراجات ولغة جديدة ووعود استثمارات إماراتية وسعودية بمليارات الدولارات. العراق هو في الواقع الحديقة الخلفية لإيران وخاصرتها الرخوة والمتنفس الاستراتيجي لها.
أما بيت القصيد فقد يكون مالفت اليه بعض الاعلام وأغفله إعلام آخر، وهو الموقف الذي أطلقه المبعوث الاميركي الى ايران روبرت مالي، والذي اقلق اسرائيل كثيراً.
روبيرت مالي قال بوضوح ان الهدف من المحادثات في فيينا هو العودة الى الاتفاق النووي من دون الدعوة الى تعديله او اضافة اتفاقيات جانبية.
إسرائيل القلقة من الاتفاق، ومن مجريات فيينا، لم تتأخر في إرسال اشارتها الاعتراضية. فبالتزامن مع افتتاح المفاوضات، استهدفت سفينة ايرانية من دون ان تبلغ ادارة بايدن بالعملية مسبقاً، لا بل انها عملت بعد حصول عمليتها على الابلاغ الى واشنطن أنها نفّذت هجومها لأسباب تتعلق بالامن القومي الاسرائيلي وان ليس لعمليتها علاقة بأي شيء آخر. فلقد بررت اسرائيل أنّ السفينة الايرانية التي هاجمتها بعد عبورها قناة السويس إنما هي فعلاً سفينة تجسّس تابعة للحرس الثوري الايراني، وتعمل لجمع المعلومات عن اسرائيل، ولدى إسرائيل ما يكفي للبرهنة على جدية حجتها.
في الواقع يملك الجيش الاميركي معلومات مشابهة عن السفينة المموّهة، لكنه يدرك ايضا أنه لم يكن هنالك خطر داهم يدفع بالجيش الاسرائيلي الى تنفيذ هجومه الآن. والواضح انّ في التوقيت رسالة اعتراض على التقدم الذي حصل بين واشنطن وطهران والذي وضع جانباً، أقلّه في المرحلة الحالية، ملف الصواريخ البالستية. وفي العادة فإنه من النادر جداً أن تتبنّى اسرائيل او تنفي مسؤوليتها عن ضربات ضد اهداف ايرانية، واعلان تبنّيها مسؤوليتها عن العملية هو رسالة واضحة موجهة الى واشنطن بلا ادنى شك.
لهذا السبب قرر الرئيس الاميركي جو بايدن إرسال وزير الدفاع لويد اوستن الى اسرائيل يوم الاحد المقبل، في اول زيارة لمسؤول في ادارته الى تل ابيب. فالادارة الاميركية تريد احتواء الغضب الاسرائيلي من خلال منح اسرائيل الضمانات التي تحتاجها، بهدف حماية المفاوضات ومنع التشويش عليها. وسيتولى اوستن وضع المسؤولين الاسرائيليين في خلفية الموقف الاميركي حول ما تحقق حتى الآن، وتأكيده التزام الادارة الاميركية بأمن اسرائيل والحفاظ على التفوق النوعي للجيش الاسرائيلي في المنطقة، اضافة الى الضمانات العسكرية المطلوبة. ويبدو ايضاً ان وزير الدفاع الاميركي سيتطرق بشيء من التفصيل الى الوضع في سوريا ولبنان.
ـ ما الانعكاسات التي ستلقي بها مفاوضات فيينا على سوريا ولبنان؟
في سوريا، وتحديداً في المنطقة الشمالية ـ الشرقية، كانت الولايات المتحدة الاميركية قد نفذت غارات ضد موقع عسكري تابع للايرانيين، وقيل انه تم تدمير منشآت مهمة كانت تستخدمها ايران. وقيل ايضا انّ الجيش الاميركي عمل على منع ايران من بسط نفوذها على منطقة نفطية في دير الزور.
وفي الوقت نفسه تم تداول معلومات تتحدث عن زيارة سرية قام بها وفد امني لإحدى الدول الاوروبية الحليفة للولايات المتحدة الى دمشق عبر المطار.
صحيح انّ مضمون الزيارة بقي سرياً، الا انّ ذهاب الوفد في هذا التوقيت بالذات وعبر مطار دمشق بعد ان كان يحصل سابقا عبر لبنان، إنما له دلالاته البليغة. ومن دلالاته أن تقدمت باريس مباشرة على خط تأمين الولادة الحكومية بعدما زارها المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم.
من المنطقي الاستنتاج أنّ العاصمة الفرنسية التي تشارك في مجموعة الدول التي تفاوض ايران في فيينا، لمست التحسن الذي طرأ على الملف النووي، واستنتجت أن الظروف باتت اكثر ملاءمة لتذليل العقبات الداخلية. لكن كما ان تراجع حدة المعارك في مأرب لا يعني قرب التوصل الى وقف كامل لإطلاق النار، فإنّ تراجع المواقف المتشنجة لا يعني أن الازمة الحكومية حان وقت حلها. ولكنها:
ـ على طريق الحل.
الأكثر غرابة في مفاوضات فيينا، ذاك الكلام الذي يقول:
ـ إذا أحببت أن تعرف ما الذي تذهب اليه المفاوضات:”إبحث في حقائب سلطنة عمان”.
كل الحكاية في تلك االحقائب.