يغوص فكر الطيب تيزيني في أعماق مأساة العالم العربي، فيحدد طبيعة المأساة، ويكشف العلاقات التي تحكمها، وتكون العلاقة بين الداخل العالم العربي والخارج الآخر القوي علاقةً موسومةً بتبعية الأول للثاني، وبإحساس الأول بضرورة امتلاك الخارج القوي له سواءً عبر الحرب أم بوسائل أخرى. يرى التيزيني في العالم العربي أنه في هذه المرحلة عالم مطلوب من الجميع لأنه عظيم وجميل، ولأنه أيقونة التاريخ، لكنّ هذه الأيقونة في أيدٍ غير قادرة على حمايتها. ويظن الطيب تيزيني أنّ علاقة الداخل العربي بالخارج القوي هي علاقة تتكثّف عبر نظرية المركز والدائرة فكلما اتسعت الدائرة أصبحت دائرةً كونيةً، وقد اختصّ بنا أن ننظر إلى الداخل باعتباره ملحقاً بالخارج، ملحقاً يجعل الخارج سيّداً للداخل. هذه الرؤية تكشف عجزاً عميقاً في معرفة الذات وطبيعتها وقدراتها، وتكشف أيضاً عجزاً كبيراً في معرفة الآخر القوي وطبيعته وتكوينه وقدراته. هذه الرؤية لا تُظهرُ طبيعة العلاقة بين الداخل والخارج، ولا تبيّن كيفية تصحيحها لتستقر على مدار جدلية متبادلة ندّية التأثير والتأثر. هذه العلاقة البائسة بين عالمنا العربي والخارج الأجنبي علاقة تضيف كميات هائلة من الألم، صار هذا الألم جزءاً من حال العالم العربي.
- لكنّ السؤال الأهم يتلخص في القول: كيف ننقضُ داخلنا لنحصل على حالٍ أفضل؟.
يرى التيزيني أنّ ذلك ممكن بشرط أن يتحول قتال الخارج إلى قتالٍ في الداخل حول المشروع الوطني الديمقراطي، فالآن المشروع الوطني التوحيدي لم يعد محتملاً إطلاقاً من دون الديمقراطية التي تضبط تلك الخطوة، تضبطها ضمن قانونية الديمقراطية، وخصوصاً القوانين الأساسية، وفي طليعتها قانون الحكم الديمقراطي، تبادل العملية بحيث نجد دائرةً من التقدم إلى الأمام. هذا التحول في الرؤية والممارسة وفق برنامج واضح سينسف بالضرورة نظرية المركز والدائرة، المركز هنا إعادة مستمرة لحالة الإنهاك الداخلي وتبعية العالم العربي المقيتة، هذا العالم الذي يشغل مكاناً على محيط الدائرة، هذه العلاقة علاقة تخدم المركز وتزيدُ من صلابته، وتُنهكُ المحيط، وتعمل على مزيدٍ من ذوبانه في المركز وتبعيته له. ولهذا يرى الطيب تيزيني أن الديمقراطية أصبحت ملازمةً لأيّ عملية تغيير داخلي في أي قطر عربي، هذا هو واقع الحال الذي دخلنا في غماره ونعيشه الآن، نعيش مأساته العظمى في داخلنا وفي العالم، لقد صدّرنا عالمنا المتفسخ إلى الخارج، وذهب الآخرون كي يقدموا تجربتهم، ويتعلموا تجربةً أخرى، إنها مأساة الوطن العربي. ويرى الطيب تيزيني أنّ الحاضر العربي تربطه بالماضي العربي وشائجُ التراث والفكر، وهناك ضرورة تحديد السياق التاريخي للفكر العربي كما للفكر الإسلامي. معرفة العلاقة بين الفكرين ضرورة، فالفكر الإسلامي لم ينشأ في فراغ حين بدأت إرهاصاته في تلك المرحلة التاريخية، فمن الضروري معرفة تاريخ العرب قبل الإسلام، وهل كانت هناك حركة فكرية للعرب في تلك المرحلة، فليس من المنطقي أن يأتي الإسلام بمنظومةٍ فكريةٍ كبرى إلى مجتمع بلا فكر. هذا الأمر يجعل من المشروع طرح أسئلةٍ حول المسوّغات الفكرية والسياسية التي أحالت فكر العرب قبل الإسلام إلى ديوان شعرٍ، وأهملت القيم الفكرية والفلسفية حتى لو كانت في حالة البدايات. يقول الطيب تيزيني: كان للإسلام الفضل في إبراز العرب، هنا الفضيلة العظمى للإسلام. هذا الرأي قد يكون قابلاً للمناقشة بصورة أعمق وأوسع، فالعرب قوم موجودون بفكرهم وتكوين حياتهم وجغرافيتهم وشعرهم، وهم يشكّلون من تفاعل تلك العناصر بنيةً ذات سياقاتٍ تطورية، يمكن تلمسها ومعرفة اتجاهاتها. ولهذا جاء الإسلام بوصفه منظومة فكرية على قاعدة تلك الحالة، فأضاف إليها بُعداً يتعلق بجوهر الصيرورة التاريخية، الجوهر هنا يتعلق بطبيعة حياةٍ تحتاج إلى آفاقٍ أوسع، و( تحتاج إلى تطوير في البنية القائمة التي ضاقت بمحمولها)، ويتضح من السياق التاريخي أن الاقتصاد العربي في تلك المرحلة في منطقة الجزيرة العربية كان في حالة تطورٍ ضاقت به قواعد العمل المعمول بها، فالتجارة اقتصاد (لإيلاف قريشٍ إيلافهم رحلة الشتاء والصيف) هنا تجارة ولها طرائق ترتادها، أي أن تشكّلَ مركزٍ تجاريٍ عالميٍ في مستوى المرحلة كان يحدث في تلك المرحلة التاريخية، هذا المركز بحاجةٍ إلى وجود نقودٍ تشكّلُ قاعدةً للتبادل، وبحاجة إلى قوّة أمنية تحرس طرق التجارة، وتمنع الاعتداء عليها، ومن ثم فالتجارة بحاجة إلى صيغة قانونية بصورةٍ ما (الدولة). هذه هي الصيرورة، والإسلام بمنظومته الفكرية أتى ليعبّر عن الضرورة فيها، ولهذا شكّل العرب وهم أصحاب المشروع الاقتصادي الحضاري حاملاً اجتماعياً للإسلام وتوسعه اللاحق. يقول الطيب تيزيني: لن تستطيع أن تُنتج مشروعاً وطنياً باستعارة وجوه ما من الآخرين لكي يقوموا بهذه المهمة الداخلية. هذه الرؤية صحيحة، فالداخل هو من يحمل مشروعه ويعمل عليه، وهذا يتطلب إعادة بناء الفكر العربي تسليط الضوء بصورةٍ علميةٍ على علاقته بمنظومة الفكر التي أتى بها الإسلام. فالإسلام في مرحلة العرب تلك كان أوسع قدرة على تقديم الإجابات عن درجة التطور التاريخي، ولهذا كان بمقدوره أن يحمل العرب معه في آفاق توسعه الكبرى، هذا ما جرى تحت مسميات الفتوحات وهو تعبير اقتصادي سياسي اجتماعي فكري. الفتوحات ليست فعلاً عسكرياً فحسب، على الرغم من أنّ الأداة في الفعل هي أداة قوة عسكرية، ولكنّ المحمول الفكري والاقتصادي والسياسي كان ينتقل مع فعل الأداة العسكرية في شروط قد تكون مواتيةً للانتشار الفكري للإسلام في تلك المرحلة. لنضع إصبعنا على الحقيقة، فالإسلام وجوهره القرآن انتشر أصلاً عبر العرب ولغتهم العربية، فالعرب هم الذين كانوا أساس وجود الإسلام، العودة الآن إلى هذه الحاضنة التاريخية وقراءتها من جديد في سياقها التاريخي الذي أفضى إلى الإسلام. إذاً هناك فعل تطوري فكري عربي له أنساقه ودرجات تطوره جرى إهمالها وإلحاقها بالمنظومة الجديدة (الإسلام). وهذا خلل في المنهج والتحليل المعمول عليهما في فهم الظاهرة، وهو فهم أضرّ بالمحمولين الفكريين العربي والإسلامي. هذا الخلل استمرّ بأشكالٍ متعددة ومختلفة مع طبيعة تطور البنية المجتمعية العربية في ظلّ الإسلام. هذا الخلل العميق دفع إلى مأسوية ما تزال حاضرةً. يقول الطيب تيزيني: لا الإسلام ولا العروبة استطاعا أن يعملا شيئاً ضمن هذه المتغيرات الهائلة في تخلفها وفي صراعاتها الدموية. ويظن التيزيني أنّ محاولات الفكر العربي المعاصرة أهملت خطوة تكوين الفكر العربي قبل الإسلامي، فكيف يكون الفكر العربي فكراً حاملاً لنسق فكريٍ متقدم في حينه (الإسلام) وهو فكر ضعيف وهش. هناك جهل على ما يبدو في مستوى قراءة الواقع الفكري العربي، هذا الجهل قد يكون من أسبابه استخدام مناهج بحثٍ ذات نظرةٍ استشراقية كما حدث مع فكر محمد عابد الجابري، وربما يكون الجهل من إهمال نقد العقل العربي ما قبل الإسلامي لمصلحة نقد العقل الإسلامي كما فعل محمد أركون. فالجابري كما يرى الطيب تيزيني وقع في خطأ حاسم، خطأ معرفي اعتبر الفكر العربي هنا فكراً قاصراً لم يستطع أن يرقى إلى مستوى العقل الغربي. هذه الرؤية لم تكن ذات مقدرةٍ أبستمولوجية دقيقة، وهذا ما غيّبه الجابري، لذلك دعا إلى الذوبان في الفكر الغربي.
- يبقى السؤال الكبير والحاسم: هل كان التاريخ العربي ما قبل الإسلام حاسماً لأنه أفضى إلى مرحلة الإسلام، وإلى ما بعد الإسلام بمراحل معظمها كانت مخفقةً (المشروع العربي)؟.
لقد حدث وكتب كثير من المفكرين والمؤرخين عما قبل الإسلام، لكنهم أغفلوا الوجه النظري الفكري فيه، وألحّوا على الوجه الشعري. ولكن لتحديد الرؤية بشكلٍ أعمق وأدق ينبغي القول إنّ الأيديولوجيا في تلك المرحلة كانت أيديولوجيا دينية، جرى تطورُ الفكر العربي ضمن وعائها، ولم يشتقّ لنفسه طريقاً خاصةً به. هذا التلازم بين النسقين الفكر الإسلامي والفكر العربي جرى احتسابه سيرورةً أيديولوجيةً واحدةً، وهذا خطأ معرفي يجب إعادة النظر فيه. يقول الطيب تيزيني: كان الجابري مفكّراً أتقن أداة التفكير الغربي، وأراد أن يطبقه على الفكر العربي، فوقع في هذه المفارقة. المطلوب إذاً نقد الفكرين معاً العربي والإسلامي، والنقد هنا ضرورة لاكتشاف زاوية الافتراق والبناء عليها، وهذا يسمح بالتصحيح التاريخي لكليهما، فالفكر الإسلامي فكر محمول على بنية ذات درجة تطورية، وكي لا يغدو فكراً معوِّقاً أمام تطور البنى الاجتماعية، فهو يحتاج إلى نقدٍ متجددٍ باستمرار، وإلى اعتماد منهجية عقلية بعيدة عن إهمال العقل ودوره، وهذا أيضاً ما يحتاج إليه الفكر العربي الذي ما يزال أسير بناه المتخلفة، ولذلك يبدو عاجزاً عن تقديم إجابات حقيقية تسمح بالخروج من هذا المأزق التاريخي. إنّ ذهاب الطيب تيزيني إلى مفهومٍ جديدٍ (من التراث إلى النهضة بدلاً من التراث إلى الثورة) هو إعادة إنتاج للرؤية غير المكتملة سابقاً لديه. القول من التراث إلى النهضة هو قول يتفق مع الاعتراف بضرورة العمل الملموس على مسألتي الديمقراطية والليبرالية. إذاً هناك ضرورة لإزالة غشاوة الوهم بالرهان على بنىً غير ناضجة اجتماعياً بالمعنى التاريخي لحمل برنامج ثوري غير قادرة على حمله. ولهذا يعترف الطيب تيزيني أنّ الديمقراطية هي الأداة التي تقوم على توحيد البلد الواحد وتوحيد البلدان العربية مجتمعة. ويرى أنّ الحلّ لا يأتي من الخارج. ولا يأتي عبر تجربة فاشلةٍ في الداخل. هل المطلوب تجاوز علاقة الداخل بالخارج التي ما تزال سارية المفعول في بعض جوانبها؟. هل يمكن فعل ذلك تاريخياً؟. يجيب الطيب تيزيني: إنّ الديمقراطية تمثّل الخلاص، الديمقراطية التي تقوم على قواعد أساسية، التبادل التاريخي المفتوح أمام التقدم والتطور، أي التبادل المتقدم. يرى التيزيني ضرورة أن تموت العقلية السابقة التي حملتها المشروعات الانقلابية التي جعلت العالم العربي ساحةً من خيبات أمل. ويظن أيضاً أنّ ما حدث في سوريا يجمع في أحشائه تلك الاحتمالات كلها، ولهذا يعتبر أن 2011 حركة بوصفها ثورة ليست أمراً حاسماً، ولذا هناك حالة من حالات الضرورة لوجود ثورةٍ لإخراج الوطن العربي من هذا الأسى الكبير الذي وصل إليه. إنّ هذا الأسى يتمثل في جانب منه بعملية ضرب الحامل الاجتماعي لأي تحولٍ اجتماعي تاريخي إيجابي، والمقصود هنا ضرب حركة الشباب العربي وهم عماد الطبقة الوسطى التي تصدّعت في سوريا بفعل حكم الاستبداد. إنّ المحتمل الرئيس هو الحصول على إصلاحات ديمقراطية حقيقية في السياسة والاقتصاد. ولكن ليس هناك احتمال لنجاح الثورة. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.