اليورانيوم في بيتنا: 4,5 مليار سنة قبل أن تزول مفاعيله.. أجنّة الحرب، أجنّة بلا جماجم وتشوهات خلقية

ضاع حلم خديجة بأن تصبح أماً بعد أن أخبرتها الطبيبة بأن جنينها يعاني من تشوهات خلقية وصلت إلى مرحلة خطيرة تستوجب إجهاضه قبل أن ينتقل الضرر الصحي لها ويتسبب بوفاتها. خديجة التي تبلغ العشرين من عمرها من الغوطة الشرقية عاشت مرارة الحرب في سوريا، ونجت بأعجوبة مع زوجها من القصف المتكرر الذي طال منزلهما في الغوطة، واستنشاق الغازات السامة المحرمة دولياً، ولكن الآثار الخطيرة لحقت بجنينها وحرمتها أن تصبح أماً. وتؤكد خديجة أن الطبيبة المتابعة لحالتها كشفت أن استنشاقها للغازات السامة هو السبب الرئيسي في تشوه جنينها، وأنها لا يمكن أن تنجب في الوقت الحالي إلا بعد إخضاعها لعلاج ومراقبة لحالتها. فآثار الحرب السورية لم تتوقف على مختلف الفئات الاجتماعية، بل تعدت ذلك إلى القادمين إلى الحياة وهم في بطون أمهاتهم بعد أن قام النظام السوري وحلفاؤه خلال الحرب باستخدام الأسلحة المحرمة دولياً ضد المدنيين في مناطق سيطرة المعارضة، ولعل أبرز الهجمات وأضخمها كان القصف بالغازات السامة على الغوطة الشرقية في آب عام ٢٠١٣، والذي خلف ١٤٠٠ من الضحايا أغلبهم من النساء والأطفال، ثم تكرر الأمر في مناطق عديدة من سوريا كخان شيخون وسراقب وغيرها، وقد كان غاز السارين والكلور المحرمين دولياً الأكثر استخداماً، إلى جانب القنابل الحارقة (النابالم) والقنابل العنقودية، الأمر الذي خلف آلاف الضحايا وأثر أيضاً على النساء الحوامل والمواليد الجدد.

الطبيبة ريما عرفات من معرة النعمان تتحدث لمينا عن أسباب انتشار ظاهرة تشوه المواليد قائلة: “وفاة المولود بعد الولادة أو التشوه الخلقي للأجنة أو موتهم داخل بطون أمهاتهم قبل الولادة حالات تتشابه مع الأمهات السوريات منذ بداية الحرب، علماً أن هذه الحالات لم تكن تشكل أكثر من ١ بالمئة قبل الحرب، لكنها باتت اليوم تصل إلى ٨ بالمئة من إجمالي النساء الحوامل اللواتي يترددن إلى عيادتي، ولعل الحالة الأكثر شيوعاً بالنسبة للتشوهات هي ولادة أطفال بدون جمجمة وقيلة سحائية دماغية كبيرة.” وترجع الطبيبة هذه التشوهات إلى حدوث تغيرات في نمو الجنين ووظائف أعضائه وتكوينه نتيجة مؤثرات مثل الأشعة والمواد الكيميائية والسموم، حيث تكون المواد التي تسبب التشوهات قد دخلت رحم الأم أثناء تكوين الجنين في الأسابيع العشرة الأولى من الحمل مما يؤدي إلى حدوث اضطرابات في تكوينه. كما تؤكد عرفات أن الإجهاض المبكر برز ضمن المشاكل التي طفت على السطح في مشاكل الولادة بسبب الحرب، حيث بلغت نسبة الإجهاض بين النساء الحوامل اللواتي تعرضن للكيماوي ٤٥ بالمئة، إضافة إلى ظهور حالات الولادة المبكرة وموت الجنين بعدها.

طبيب الأطفال فؤاد الحميد من معرة النعمان تحدث لمينا عن أثر الحرب على الأجنة والأطفال بقوله: “الكثير من حالات التشوهات الخلقية ظهرت على أطفال حديثي الولادة في سوريا، خاصة في المناطق التي تعرضت للقصف العنيف بالأسلحة الكيميائية، وتراوحت بين تشوهات هيكلية وعصبية وتشوهات عظمية وقلبية إضافة لتشوهات في الأطراف وصولاً للتشوهات الدماغية كغياب عظم الجمجمة وصغر حجم الرأس ناهيك عن الصمم والعمى والشفة الأرنبية.” كما يؤكد الحميد بوجود أبعاد بيئية وصحية آنية ومستقبلية وراء استخدام النظام السوري للأسلحة والمواد السامة، من خلال احتمال دخول هذه المواد إلى أجسام المدنيين في أية لحظة عن طريق السلسلة الغذائية بعد تناولهم المزروعات التي تلوثت بتلك المواد، وعن الإجراءات الوقائية لتفادي التشوهات يقول: “يجب على النساء الحوامل تناول الفيتامينات وخاصة فيتامين (C-E)، وتناول حمض الفوليك كإجراء وقائي للحد من تأثير المواد المشعة التي استخدمت خلال الحرب والتنويع في الغذاء، إضافة إلى الفحص الدوري وملاحظة أية تغيرات تظهر على الجسم، والفحص المبكر ومتابعة الحمل منذ الأيام الأولى وعدم الانتظار لنمو الجنين، خاصة أن الأنبوب العصبي يتشكل في الأسابيع الثلاثة الأولى من الحمل”.

غالية من مدينة خان شيخون نجت بأعجوبة من مجزرة الكيماوي على المدينة في نيسان عام ٢٠١٧، الأمر الذي أدى إلى تعرضها لحالات إسقاط متكررة، أما جنينها الذي نجا من الموت في أحشائها ولد مصاباً بتشوه في القلب أدى إلى وفاته بعد فترة وجيزة، وعن ذلك تقول بحزن دون أن تتمالك نفسها من البكاء: “حلمي في الحياة أن أرزق بطفل أراه يكبر أمام عيني، وعندما منّ الله به علي أخبرني الأطباء أنه مشوه، ومن المحتمل أن يكون السبب هو تعرضي لاستنشاق غازات شديدة الخطورة “.

انهيار الخدمات الصحية في إدلب ونقص العلاج وانتشار الأمراض وعدم وجود رعاية صحية ملائمة للأمهات الحوامل زاد من نسبة ولادة أطفال يعانون من تشوهات خلقية، إضافة إلى احتمال إصابة الأم بالعدوى المرتبطة بعيوب الولادة مثل داء المقوسات والحصبة الألمانية، كما يؤدي عدم تلقي الحامل المصابة بالسكري للعلاج إلى زيادة مخاطر إنجاب طفل مرتفع الوزن واحتمال إصابته بالأمراض التنفسية، أما مناطق اللجوء ومراكز الإيواء فتشهد تدهوراً حاداً في الرعاية الإنجابية نتيجة ضعف أو عدم كفاية الخدمات الصحية، فارتفعت نسبة الحاجات غير الملباة من هذه الخدمات وانعكس ذلك في حالات الحمل لدى النساء. أم عادل نزحت من ريف حماة إلى أحد مخيمات ريف إدلب، وعن معاناتها تقول لمينا: “نعاني داخل المخيم من سوء التغذية وانعدام أبسط مستلزمات النظافة، لذلك أصبت بالحصبة الألمانية أثناء حملي، الأمر الذي أدى إلى ولادة طفلة مشوهة من خلال إصابتها بالعمى وتقوس الأرجل وضعف البنية، فبدأنا رحلة مريرة لعلاجها رغم عدم وجود الإمكانيات وانعدام الأمل بشفائها التام.” مما لاشك به أن مخلفات الأسلحة سواء كانت شديدة الخطورة كالأسلحة المحرمة دولياً، أو متوسطة الخطورة كالأسلحة التقليدية لها تأثيرها على البيئة والإنسان، فالأغبرة والرذاذ السام والغازات الحارقة التي تنطلق من القنابل المنفجرة والتدميرية أو التي لم تنفجر، تشكل خطراً على المدى القصير والطويل على الإنسان، وفي سوريا تمتد فصول المعاناة إلى الأجنة وحديثي الولادة بعد أن أضحت أجساد المدنيين من كبار وصغار حقل تجارب للأسلحة الجديدة والمحرمة التي تتباهى الدول الكبرى بصناعتها وبيعها في مخالفة واضحة للمعاهدات والأعراف الدولية، ليظهر أثرها لاحقاً على المدنيين الذين يحتلون النسبة الأكبر من ضحايا الحروب. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

Exit mobile version