تونس وقرض النقد الدولي.. بين الضرورة والخيار الخاطئ

 مرصد مينا- هيئة التحرير

في خضمّ أزمة سياسية واقتصادية حادة، دخلت تونس مطلع شهر أيار\ مايو الجاري في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي من أجل برنامج تمويل بقيمة 4 مليارات دولار، مقابل “وصفة إصلاحات قاسية” ينهي بموجبها الدعم على الغذاء والطاقة مع احتواء كتلة الأجور بوقف التفويض واعتماد آلية التسريح المبكر للموظفين في القطاع الحكومي.

وتأمل تونس أن يمنحها صندوق النقد الدولي تمويلات جديدة لتغطية النفقات المبرمجة في قانون الميزانية لسنة 2021، وأن يفتح الباب أمامها لاسترجاع ثقة المانحين في السوق المالية العالمية.

الطلب التونسي جاء بعدما لم يعد أمام الحكومة إلا الاقتراض من السوق الدولية من أجل تجاوز الأزمة المالية الخانقة، ولكن في المقابل يرى خبراء أن الحكومة تواجه تحديات عديدة قد تؤدي إلى إحجام صندوق النقد الدولي عن إمداد البلاد بالقروض، مما يضعها على أبواب كارثة مالية ومخاطر كبيرة، في حين يحذر آخرون من اللجوء للصندوق الدولي خاصة مع  تراجعت الاستثمارات الخارجية الأجنبية بنسبة كبيرة وانسحاب كبرى شركات الطاقة من البلاد.

تحذيرات من  خطر الإفلاس

خلال الأشهر الماضية، تواترت التصريحات الرسمية حول المشكلات الكبرى التي تهدد الاقتصاد التونسي، لا سيما في ظل تراجع مؤشراته الكلية الرئيسية، وأن هذه المشكلات قد تؤدي إلى الإفلاس حال لم تلجأ الحكومة التونسية إلى صندوق النقد الدولي.

وزير المالية والاقتصاد “علي الكعلي” أعلن ذلك صراحة أمام البرلمان خلال جلسة عامة، قائلاً إن البلاد بحاجة إلى الاقتراض مجدداً، لا للاستثمار، بل لتسديد ديونها ولمواصلة صرف الحسابات الجارية ومنح التقاعد، مؤكداً أن القيمة الإجمالية للقروض التي وقعت برمجتها في ميزانية 2021 تقدّر بنحو 18.4 مليار دينار، أي نحو 6 مليارات دولار.

يرى المحلل الاقتصادي “عماد شريتي” إن إصرار الحكومة على تكرار مصطلح الإفلاس لم يكن للتحذير من الوضع الاقتصادي المتردي الذي تتعلل فيه بظروف وباء كورونا، وإنما هو أيضاً لتهيئة الشارع التونسي الداخلي لتقبل اشتراطات صندوق النقد الدولي، والذي سيكون هو ضحيتها الأولى، لأنه ببساطة لا يوجد طريق بخلاف ذلك من وجهة نظر الحكومة التونسية، مشيرا إلى الدولة قادرة على سداد عجز الرواتب والمعاشات، حتى من خلال طبع النقود، لكن المجتمع هو من سيتحمل فاتورة التضخم وانخفاض قيمة العملة من خلال قروض الصندوق.

بالإضافة إلى ذلك، يؤكد “شريتي” أنه يمكن للحكومة الاعتماد على الاقتراض ببيع سندات بالعملات الأجنبية في الأسواق الدولية، مع رفع سعر الفائدة، وتقديم ضمانات جيدة لتفادي انخفاض التصنيف الائتماني للاقتصاد التونسي.

أما الدين الخارجي، فمن الممكن بحسب “شريتي” إجراء مناقشات جادة مع الدائنين بمظلة نادي باريس أو وسطاء آخرين، حول إمكانية تأجيل السداد وإعادة هيكلة الالتزامات، بما يراعي الظرف الاقتصادي العالمي الذي يعاني منه الجميع، والظرف المحلي التونسي، مرجحا أن الكثير من الدول الدائنة لم تكن لتمانع في إعادة الهيكلة، في ظل توافر تلال السيولة الناجمة عن سياسات التيسير الكمي التي اتبعتها البنوك المركزية الكبرى في العالم.

ويضيف، ربما يكون نجاح الحكومة التونسية في الحصول على قرض من الاتحاد الأوروبي مؤخراً خير مثال على وجود طرق أخرى بعيدا عن الصندوق.

يشار إلى أن سفير الاتحاد الأوروبي في تونس، “ماركوس كورنارو”، كان أعلن في وقت سابق، أن الاتحاد وافق على قرض بدون فائدة بقيمة 600 مليون دولار لتونس، وعلى فترة سداد 20 عاما، وأن نصف القرض سيحول للميزانية التونسية خلال أسابيع، على أن يصرف النصف الآخر قبل نهاية عام 2021، بناءً على مدى التزام تونس بالإصلاحات، وأن القرض يأتي في إطار جهود الاتحاد الأوروبي لمساندة تونس في تخفيف التداعيات الاقتصادية لوباء كوفيد-19.

فخاخ قرض صندوق النقد الدولي

في الوقت الذي حزمت فيه الحكومة التونسية أمرها بشأن التوجه نحو الاقتراض من صندوق النقد الدولي، تعالت أصوات الخبراء والمحللين الاقتصاديين للتحذير من الآثار الكارثية الحتمية المتوقعة لبرنامج الصندوق، والتي ستفضي بحسب الخبراء إلى إفقار الشعب التونسي، من خلال ضغط النفقات، ورفع الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية، وتثبيت الأجور، وإيقاف التعيين في الوظائف الحكومية، كما ستعمل على رفع نسب الضرائب وابتكار ضرائب ورسوم حكومية جديدة.

إصلاحات الصندوق هي برنامج مفخخ لإفقار الشعب التونسي، وإذا لم توجد مواقف حكومية جادة وصلبة أثناء التفاوض، تتبنى سياسات وبرامج جاهزة وواضحة للتخفيف من هذا الإفقار، يقول الباحث الاقتصادي “عمران الماجري” محذرا من استسلام الحكومة للنتائج الكارثية التي رأيناها في تجارب البلدان التي لجأت مسبقاً إلى الصندوق، والتي لم تتقلص أعداد فقرائها رغم سنوات التبعية الطويلة للصندوق.

ويؤكد “الماجري” أنه بالإضافة غلى نتائجه الكارثية على الشعب، فقرض الصندوق سيكون بداية لسلسلة من القروض ستطوق الدولة والمواطن يصعب الفكاك منها، وذلك سيتطلب وجود برامج وطنية مخلصة، أولاً للتخلص من الاحتقان السياسي الداخلي الذي بات معروفاً من هي القوى الداخلية والخارجية التي تغذيه، وثانيا بناء استراتيجية اقتصادية شفافة تعمل على علاج مكامن الخلل الهيكلي، والتحليق بالاقتصاد نحو التنوع والإنتاجية، وكل ذلك بعيداً عن المساس بحرية المواطن ومستوى معيشته.

ضرورة أم خيار خاطئ

وعما إذا كان اللجوء إلى صندوق النقد ضرورة إم هو خيار خاطئ يقول الخبير الاقتصادي “فهد جودة” إن صندوق النقد ليس خيارا بل هو ضرورة وهو ملجأ البلدان التي تمرّ بصعوبات مادية حادة، لأنه  يقرض بنسب فائدة ضئيلة ويأخذ ضمانات أقل من السوق المالية العالمية أو من مقرضين آخرين.

ويضيف، لكن حينما نصل إلى الهاوية ولا نقوم بالإصلاحات اللازمة وتنفق أكثر مما ننتج في خضم تواصل الاضرابات واحتدام حالة عدم الاستقرار السياسي وتواصل التجاذبات السياسية وكل ذلك يحصل مع وجود دستور هجين وقوانين هجينة، فكل هذه الظروف تفرض علينا اللجوء إلى صندوق النقد الدولي وهو لم يفرض نفسه على تونس بل نحن أرغمنا أنفسنا على اللجوء إليه.

وأشار “جودة” إلى أن تونس منذ عام 1990 إلى عام 2016 لم تتجه لصندوق النقد ولم تكن مضطرة لذلك، فصندوق النقد لا يفرض نفسه على البلدان ولكن الحكومات الفاشلة هي التي تجبر بلادها على التوجه للصندوق الذي كان متسامحا في تونس لأنه طلب من الحكومات المتتالية نفسها ان تقترح هي الإصلاحات التي قادرة على تفعيلها ولم يفرض أي إملاء أو شرط. ولكنه الآن سيفرض إملاءات لأنه يموّل ويريد أن يسترجع تمويله وهو لا يمول بهدف الزيادة في حجم الأجور دون موارد تقابلها.

وفي حديثه عن الحلول الممكنة والسيناريوهات المحتملة يرى الجودة أنه إذا عاد الإنتاج الوطني خاصة في مجال الفوسفات والبترول، ووقع التحكم أكثر في خطة الأجور وتمّ وقف الانتدابات العشوائية في المؤسسات العمومية وحصلت إصلاحات فعلية في المؤسسات التي هي في حالة عجز، ستكون حينها تونس قد اقتربت من شاطئ الأمان. ولكن في غياب كل ذلك فإن الوضع الاقتصادي سيكون على المحك في ظل استمرار عدم الاستقرار السياسي بكل ما يحمله من مخاوف وتداعيات سلبية على الوضع في البلاد.

إلغاء دعم المواد الغذائية

يتضمّن برنامج إصلاح الدعم في مرحلته الأولى إلغاء دعم المواد الغذائية ومنح مقابل مالي لكل التونسيين بغضّ النظر عن دخلهم، فضلا عن فتح منظومة لتسجيل الراغبين في الحصول على الدعم المالي، ويشمل إلغاء الدعم  المواد الغذائية بالدرجة الأولى ثم الكهرباء والغاز لاحقا قبل الوصول إلى إلغاء الدعم نهائيا عام 2024.

وتقدّر نفقات الدعم بـ6.2 مليارات دينار في عام 2021 مقابل 4.1 مليارات دينار في عام 2020.

الوثيقة الحكومية لبرنامج الإصلاح أظهرت أيضا أن تونس تريد خفض كتلة الأجور إلى 15% من الناتج المحلي الإجمالي في 2022 مقابل 17.4% في 2020.

ووفقا للوثيقة ستضع الحكومة برنامجا للتشجيع على المغادرة الطوعية لموظفين لقاء حصولهم على 25% من الراتب أو الحصول على نصف الراتب مقابل أيام عمل أقل.

تراجع حاد للاستثمارات الخارجية

وفق إحصائيات الوكالة التونسية للنهوض والاستثمار، فقد تراجعت الاستثمارات الخارجية الأجنبية المتدفقة على تونس خلال الثلاثية الأولى من السنة الحالية بنسبة 31.6 في المئة، حيث بلغت قيمة هذه الاستثمارات في شهر آذار\ مارس الماضي، حوالى 126 مليون دولار، في مقابل 186.5 مليون دولار تقريباً في الفترة ذاتها من العام الماضي.

وبالمقارنة مع السنوات الثلاث الأخيرة، تقهقرت الاستثمارات الخارجية في تونس بنسبة 43.3 في المئة، مقارنةً مع عام 2019 و38.3 في المئة مقارنة مع عام 2018.

أما بالنسبة إلى توزيع الاستثمارات الخارجية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي، فقد بلغت استثمارات الحافظة المالية، مليون دولار أميركي، في مقابل 700 ألف دولار في 2020، فيما بلغت الاستثمارات الخارجية المباشرة، 124 مليون دولار في آذار\ مارس الماضي، مقابل 185.8 مليون دولار في الفترة ذاتها من عام 2020.

يُشار إلى أن تونس تمرّ بأزمة اقتصادية خانقة أثّرت في معظم المؤشرات، ما أدى إلى تسجيل نسبة نمو سلبية بلغت 8.8 في المئة خلال العام الماضي.

Exit mobile version