انتهت أخيراً أسطورة داعش، التي كانت تعيش على مقولة “باقية وتتمدّد”، فهذه الإحالة النفسية التي يلعبها هذا الشعار، لم تكن أكثر من تعبير عن شدّة التناقض بين أطراف الصراع الحقيقية في سوريا. وباعتبار أنّ شدّة التناقض وصلت إلى مرحلةٍ خطيرةٍ تهدّد بانتقال الصراع وتوسعه تحت شروطٍ خارجةٍ عن الإرادة الدولية والإقليمية، بات من الضروري لدى صنّاع القرار الدولي إنهاء هذه الأسطورة الوهمية، التي تعيّشَت عليها قوى دوليةٍ عديدة. فهذه الأسطورة الوهمية سمحت بتغيير طبيعة الصراع، ونقلته من حقله الخاص (إنهاء الاستبداد الأسدي)، ووضعته في خانة الصراع ضدّ الإرهاب،. وبهذا تمّ طمس أهداف السوريين في انتفاضة حريتهم وسعيهم لنظام حكم ديمقراطي، واستبدالها بأهدافٍ سياسيةٍ تخدم أجندات القوى المنخرطة في الصراع السوري. ولكن مع سقوط داعش في بقعته الجغرافية الأخيرة “الباغوز” ينبغي التفكير جيداً حول طبيعة الاستحقاقات التالية لهذا السقوط، إذ ستجد القوى الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية وحلفها وروسيا الاتحادية وحلفها) نفسها في حالة مواجهة سياسية، وربما مواجهة عسكرية في الخطوة التالية سوريّاً. فالأجندات الدولية لا تزال في حالة صراعٍ متحركٍ داخل الساحة السورية، سيما بما يتعلق بطبيعة النظام وتركيبته، وشكل الحكم السياسي، والكشف عن مستلزمات إعادة الإعمار بشقيه الإنشائي والانساني. وسيكون من غير الطبيعي بعد صراعٍ دامٍ أن يفكر الروس بإعادة انتاج النظام السياسي في سوريا وفق بنيته الاستبدادية والقهرية المتخمة بالفساد، ولهذا هم معنيون كطرفٍ منخرطٍ بلعبة الصراع السوري، أن يعيدوا حساباتهم السياسية بطريقة تضمن لهم من جديد استعادة دورٍ فقدوه بتدخلهم لمصلحة النظام الأسدي. هذه الحسابات تعني إيجاد تقاطعات جادة مع جوهر التغيير الذي ينشده السوريون، وهم بذلك سيتقاطعون بصورةٍ أو أخرى مع حليفهم التركي حول طبيعة النظام السياسي الجديد في سوريا، ولكنهم مضطرون لإيجاد معادلات جديدةٍ بينهم وبين الأمريكيين، الذين لن يُخلوا الساحة السورية لهم. هذه المعادلات ستتناول طبيعة المرحلة التالية بعد سقوط داعش، أي باختصار شديدٍ، سيتمّ الذهاب إلى تفعيل ما تمّ تجميده على مسارات الحل السياسي المرتكز على محتوى القرار الدولي 2254. إن سقوط داعش هو أمر طبيعي ومتوقع، فلقد انتهت المهمة الموكلة إلى هذا التنظيم، الذي تسبب بأذى فادحٍ لكل السوريين، وتحديداً للذين يعيشون في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام الأسدي في مراحل الصراع الأولى. ولكن، ماذا بعد السقوط ؟، وما المهمة الأقرب لأطراف الصراع ،والتي تشكّل خطوط تماس ساخنة بينهم ؟. هذه الأسئلة تحتاج إلى اجابات تكشف عن ملامح المرحلة التالية، من حيث طبيعة التحالفات الجديدة، وطبيعة الصراعات المتوقعة. فالروس الذين اعتمدوا على جهد القوات الإيرانية والميليشيات الحليفة لإيران في المعارك التي جرت ضدّ المعارضة السورية، سيجدون أنفسهم في حالة صراعٍ نفوذ لا يعمل لمصلحتهم معها. وهذا يجعل المصلحة الروسية في حالة جديدة من التقاطعات، والتحالفات الصغيرة، إذ هم مضطرون للقبول بتمرير صيغة اللجنة الدستورية وفق الرؤية الدولية، التي وضعتها الأمم المتحدة باعتبارها وسيط في حلّ الصراع السوري. كذلك سيضطر الروس إلى التغاضي عن العمليات العسكرية، التي تشنها اسرائيل ضد الوجود العسكري الإيراني في سوريا، والذي تجد فيه تهديداً مباشراً لأمنها القومي. وسيجد الروس أنفسهم في وضع الاقتراب خطوةً تلو خطوة من السلال الأربع التي تلخص فحوى القرار الدولي 2254، بما يحقق المصالح الروسية والمصالح الدولية الأخرى في هذا البلد. ولكن، ما هو ثمن الخطوة التالية على ساحة الصراع السوري؟ فهذا الصراع استنفذ كثيراً من قدراتٍ بشريةٍ وماليةٍ وعسكريةٍ إيرانية، باتت تشكّل أرقاً للحكومة الثيوقراطية الحاكمة في طهران. ولذلك ستحاول إيران إيجاد وسائل أخرى، عسكرية، وغير عسكرية للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في سوريا، وربما ذهبت إلى أبعد من ذلك في محاولة إغراق جميع اللاعبين على الساحة السورية بوحل الصراع الذي لا يزال مستمراً. وهذا يدفع للتساؤل هل ستسمح القوى الدولية الرئيسية (الولايات المتحدة وروسيا) لإيران بالذهاب في سيناريوهاتها إلى النهاية؟. هذا السؤال ستجيب عنه التطورات اللاحقة على الصراع السوري بعد سقوط داعش وأسطورتها الوهمية، ويمكن القول أن السوريين لا يزالون على مسافةٍ بعيدة من عودة السلام والأمن والاستقرار إلى ربوع بلادهم. والذي يشكل التوافق الدولي على تنفيذ القرار 2254 قاعدته الحقيقية . وبنفس الدرجة لا يزال الروس في وضع غير المصدّق لنفسه، بأن خيوط لعبة حلّ الصراع السوري، يمكن أن تبقى في قبضتهم كما يتوهمون .وهذا الأمر هو الذي سيدفعهم إلى البحث عن بدائل لسياساتهم وتحالفاتهم السابقة. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.