آلان بابيه… حين يتحوّل المؤرخ إلى ضمير يُطارد أمّته

صندوق المرصد

من النادر أن يقف الإنسان في مواجهة الجماعة التي أنجبته، لا بدافع الانتقام أو الكراهية، بل بدافع الصدق. آلان بابيه، المؤرخ الإسرائيلي الذي تحوّل إلى شاهد مزعج في سجلّ الرواية الصهيونية، يُجسّد هذه المفارقة بكل عنفها الأخلاقي والمعرفي.

ابن حيفا، المُولود عام 1954 لعائلة يهودية ألمانية نجت من براثن النازية، لم يرث فقط ذاكرة القلق اليهودي، بل حمل أيضاً حساسية نادرة تجاه “الآخر”، ذاك الفلسطيني الذي سكن الأرض قبله، والذي طُرد منها عام 1948 في واحدة من أعقد صفحات التاريخ الحديث، النكبة، أو كما يُسمّيها بابيه بوضوح أخلاقي:

ـ التطهير العرقي لفلسطين.

في كتابه الشهير الذي حمل هذا العنوان، لم يتردّد بابيه في فضح الأكاذيب المؤسسة لدولته، معتمداً على وثائق الأرشيف الإسرائيلي نفسه.. لم يُحاجج بلغة العواطف أو البلاغة السياسية، بل بلغة الأرقام والخرائط والأوامر العسكرية، مُظهراً كيف تحوّل “الاستقلال” بالنسبة لليهود، إلى “اقتلاع” بالنسبة للفلسطينيين.

بابيه لا ينتمي لفئة “المتعاطفين”، بل لفئة “المُدانين من الداخل”، أولئك الذين لا يمكن اتهامهم بالعداء الأيديولوجي لدولتهم لأنهم أبناء جلدتها، ومع ذلك، يُمارسون الخيانة الكبرى في عرف القومية الضيقة:

ـ خيانة الرواية الرسمية.

لكن، لعلّ ما يجعل موقف بابيه أكثر تعقيداً، ليس فقط كشفه للتاريخ القريب، بل إصراره على إعادة رسم المستقبل.

في زمن يلهث فيه العالم خلف حل الدولتين كصيغة سحرية لتجنّب الانفجار، يقف بابيه، متحدّياً التيار، داعياً إلى حل الدولة الواحدة، حيث لا مكان لامتياز إثني، ولا لحيطان الفصل العنصري، بل لدولة ديمقراطية واحدة، بحقوق متساوية لكل سكانها، فلسطينيين ويهوداً.

يدرك بابيه أن هذا الطرح في نظر كثيرين، من الطرفين، هو ضرب من الخيال أو الحماقة، لكنه، كباحث يحمل على كتفيه إرثاً ثقيلاً من الدم والخرائط، يعرف أيضاً أن الحقائق الصلبة تبدأ غالباً كأحلام مستحيلة.

من جامعة حيفا إلى منفاه الأكاديمي في بريطانيا، دفع بابيه ثمن مواقفه: تهديدات بالقتل، عزلة أكاديمية، تخوين سياسي، لكنه بقي وفيّاً لفكرة بسيطة وخطيرة في آن:

ـ لا يمكن لأمّة أن تتطهر من عقدتها الأخلاقية ما لم تُصغِ لأقبح صفحات تاريخها.

قد نختلف مع بابيه في بعض تحليلاته، وقد يزعجنا أنه يخرج من رحم الخصم ليحتل موقع “الصديق المعرفي”، لكننا لا نستطيع أن ننكر حاجة هذا الشرق لنماذج مثله، تُربك الاصطفافات، وتذكّر الجميع أن الحقيقة، وإن جاءت من قلب العدو، لا تفقد جدارتها بالإنصات.

Exit mobile version