أبو سليم.. رحيل الصندوق الأسود

الكاتب نبيل الملحم

محمد حسنين هيكل كان كاتم أسرار جمال عبد الناصر.. كاتم الأسرار هذا أفشى بكل الأسرار، فكانت كتبه الأكثر شهرة والأكثر تداولاً، مايفيد بأن الصحفي لا يصلح ليكون:
ـ كاتم أسرار.
فـ :
ـ لاتمنح سرّك لصحفي.
مات أبو سليم دعبول كاتم أسرار حافظ الأسد وصندوقه الأسود، ومع دفنه دفنت خمسون سنة من الأسرار.
“دعبول” كان رجل (الأذن والعين) التي تعرف ما الذي يحدث وراء الأبواب، وترى ما يحدث وراء الأبواب، وتغلق فمها عما يحدث وراء الأبواب.
هو رجل (الأذن والعين)، وقد أخذ من القرد الصيني ميزة واحدة، فالقرد الصيني لايرى، لايسمع، لايتكلم، فيما أبو سليم يرى ويسمع ولا يتكلم.
خمسون سنة، شهدت:
ـ الانقلاب على رفاق الأمس الذين تآكلوا في سجون حافظ الأسد من طراز صلاح جديد، محمد عمران، ومن بعدهما محمد الفاضل، وسلسلة من (أفاضل أساتذة جامعة دمشق)، حتى أن روبيرت فيسك، وهو المؤرخ القريب من قلب حافظ الأسد كان قد قال :” لقد دهشت حين قال لي أحد ضباط الأسد وهو يضحك: “لقد بقي أقل من الذين قتلناهم” .
ـ أحداث حماه، ولم تقتصر على تدمير مدينة بقدر مارسمت طريقًا لسياسة توجت في سوريا ما بعد 2011 يوم باتت لغة الحديد والنار وحدها اللغة المعتمدة في معالجة جروح الناس، فكانت “حماه “بروفا” لعروض الايام السورية القادمة، وقد مُهرت هذه الأيام وماتزال بـ “الأسد أو نحرق البلد”، فكانت الحرائق التي لم تنطفئ، وقد لاتنطفئ قبل أن تحرق إطفائييها.
ـ دخول لبنان، وتحويل الشقيق إلى مستعمرة للشقيق، فكانت النتائج، شراكة في الفساد، وتدميرًا للممكن من الممكن من (سوا ربينا)، إلى المستحيل من (رح نبقى سوا)، وعلى الطريق سلسلة اغتيالات بدءًا من كمال جنبلاط وليس انتهاء بسليم اللوزي، وفي لاحقها ما ابتدأ برفيق الحريري ولم ينته بجبران تويني وبحملة الفكر والأقلام.
ـ اقتلاع الشقيق “رفعت” بالاستعانة بـ “الشغيّل” مصطفى طلاس، ومجموعات “اللواءات” حيدر، “ناصيف”، والرفاق “ناصر”، والوالدة التي تفرك أذن الصغير لحساب الابن الكبير، فيكون الرحيل مع ماخف وزنه وغلا ثمنه، حتى باتت منتجعات “ماربيا” الاسبانية، سلطانة في سرير الشقيق المخلوع.
ـ طرد أبو عمار من شارع الباكستان الدمشقي، وما رافقه من أسرار تبدأ بأحمد جبريل ولا تنتهي عند “أبو صالح”، الأول بمرتبة عريف، والثاني وقد جرّد من كل الألقاب سوى تلك التي رسمت على جدران مجازر”طرابلس”، ما بعد تصفية الفلسطيني للفلسطيني، ليلقى أبو عمار ومنظمة التحرير فيما بعد على أرصفة حمّام الشط.
ـ مباحثات السلام، وخطوط الهواتف المفتوحة، ما بين وارين كريستوفر وعبد الحليم خدّام الذي لاينطق عن هواه، فهوى الرئيس الخالد يعصف برأس نائب الرئيس كما يعصف بكل من يحيط بالسيد الرئيس، ووحده أبو سليم يعرف حدّة العاصفة وهدوء العاصفة ونسائمها.
ـ توزيع المغانم على من قلّ شأنهم، وكبرت كروشهم، بدءًا من اتحاد العمال وصولاً للجبهة الوطنية التقدمية دون استثناء معمل الشرق للألبسة الداخلية، فللكلاسين مكانتها الاستراتيجية في الدولة الوطنية وفي “كل شيء للمعركة” و “تحرير فلسطين”.
وأخيرًا مرض القائد، فوفاة القائد، فولادة القائد البديل، الرديف، الوارث لكل صفات الأب باستثناء تدوير الزوايا.
ورحل أبو سليم، ومعه رحلت أسرار وحكايا.
مات الرجل الذي عاش وشهد “عصر الأسد”، فلسوريا “عصر” واحد، ذلك أنها ليست البلاد التي تحتاج إلى “عصر النهضة”، أو”عصر التنوير”، أو”عصر المنطق”.
مات أبو سليم و:
كل الصناديق السوداء يمكن فتحها باستثناء الدماغ البشري، يستعصي على أن يفتح..
يدفن في مدفن حامله، ويثابر على كتم الأسرار.

Exit mobile version