الهدنة، أو ما يشبهها المعلن في ليبيا منذ 12 يناير الجاري، لم تكن غير فرصة تمنح لتركيا لجلب المزيد من المرتزقة السوريين وغير السوريين، ونقل شحنات الأسلحة والذخيرة، وتركيز منظومتي الدفاع الجوي في طرابلس ومصراتة، وصولا إلى إنزال جنودها النظاميين فجر أمس مصحوبين بآلياتهم العسكرية في ميناء طرابلس وأمام أنظار العالم.
روسيا التي اتفق رئيسها فلاديمير بوتين مع الرئيس التركي رجب أردوغان على تلك الهدنة أو ما يشبهها، ترفع صوتها هذه الأيام للحديث عن نقل المزيد من المرتزقة من شمال سوريا إلى غرب ليبيا، وتضيف أن الأمر يتعلق بإرهابيين دوليين. يبدو أن تركيا أرادت أن تضرب عصافير عدة بحجر فايز السراج، عبر إنقاذهم من زحف الجيش السوري، وإبعادهم عن حدودها، ونقل خطرهم إلى شمال أفريقيا لتهديد أوروبا، وتحويل ليبيا إلى مخبر جديد بعد فشل المخبر السوري من خلال نقل الصراع فيها إلى صراع عقائدي ديني في جانب منه، وكذلك إلى صراع عرقي باعتبار أغلب أولئك المرتزقة والإرهابيين ينتمون إلى القومية التركية في دول عدة بدءا من سوريا ووصولا إلى الإيغور في الصين، مرورا بالآذر والقيرغيز والكازاخ والتتار والقرقيز والأوزبك وغيرهم.
في عام 2011 قالت روسيا إنها تعرضت إلى خديعة في مجلس الأمن، عندما تمت ترجمة قرار حماية المدنيين في ليبيا إلى حرب للإطاحة بالنظام، واليوم لا أحد يعرف كيف ستتحدث عن نتائج اتفاق رئيسها مع الرئيس التركي حول الهدنة التي تحولت إلى أداة لنقل مقاتلين وأسلحة مرتبطين بنظام أردوغان وبمشروعه العابر للحدود لإدخال ليبيا في فوضى عارمة ليس مستبعدا أن تمتد إلى المنطقة ككل، خصوصا وأن للنظام التركي اليوم قوى تابعة في شمال أفريقيا ودول الساحل والصحراء وأوروبا مستعدة لتلبية دعوته التي لن تكون علنية طبعا، للاتجاه إلى ليبيا، مدفوعة بجملة من الأهداف منها الانتصار للمشروع الإسلامي ووضع اليد على ثروات البلاد، وتصفية الحساب مع دول الاعتدال التي تراها معادية لمشروعها، وتحويل ليبيا إلى ساحة يساوم فيها أردوغان الدول الأخرى على مصالحه وأهدافه الإقليمية والدولية.
لا أحد يستطيع أن يفسّر كيف أن مسلحين من جنسيات عدة كانوا يقاتلون لسنوات ضد النظام السوري بهدف الإطاحة به يتركون مواقعهم، ويقررون فجأة الانتقال إلى ليبيا للقتال ضد الجيش الليبي، رغم أن أغلبهم لا يعرف شيئا عن ليبيا ولا عن خصوصياتها الجغرافية والاجتماعية والثقافية، ولا عن المشير خليفة حفتر وقواته. التفسير الوحيد هو أنه تم تغيير قواعد اللعبة أمام أنظار العالم وبموافقة الأمم المتحدة ذاتها التي يبدو أن لها عاطفة جياشة نحو الميليشيات، لإخراج الصراع من شمال سوريا ونقله إلى غرب ليبيا.
إن إنزال الجنود الأتراك الذين وصلوا في بارجتين حربيتين صباح الثلاثاء إلى ميناء طرابلس، يطرح أكثر من سؤال حول دور الدول الكبرى التي تتحرك أساطيلها قبالة الساحل الليبي، وحول عملية “صوفيا” الأوروبية التي قالت مؤخرا إنها أدخلت ضمن نشاطها مراقبة نقل السلاح والمقاتلين إلى الداخل الليبي، بعد أن كانت مخصصة لمحاصرة الهجرة غير الشرعية، وكذلك حول مؤتمر برلين ومخرجاته التي وقّع عليها أردوغان والتي تمنع إدخال السلاح والمسلحين إلى ليبيا، وحول دور مجلس الأمن الذي بات عنوانا للخراب خاصة إذا تعلق الأمر بالدول العربية، وصولا إلى الدور الروسي المشبوه الذي يبدو أنه اشترى نصرا في سوريا بالتفريط في سيادة الدولة الليبية ونقلها إلى وصاية تركية معلنة.
إلى حد الآن، بات واضحا أن أردوغان لا يعترف بالقانون ولا بالشرعية الدولية، ولا بالتعهدات التي يمضي عليها، ولا بالتوازنات الإقليمية والدولية، وهو يعرف كيف يلاعب الغرب وخاصة واشنطن، وكيف يساومها بالفراغ عندما يعد الرئيس دونالد ترامب بأنه سيساعده على تنفيذ صفقة القرن مقابل إطلاق يده في ليبيا، وكيف يضغط على أوروبا التي يرى أنها نمر من ورق، وكيف يستفز العرب بالمزيد من مغامراته في أوطانهم ويكوّن لنفسه قاعدة في بلدانهم، ويشتري صمت الأفارقة بالوعود الاستثمارية، وكيف يتحرك بنزعة الإمبراطور المندفع بمشروع قومي كدبابة عمياء تدوس كل ما يعترضها.
بعد أن اتضحت الصورة على الليبيين أن يوحدوا صفوفهم لمواجهة الاحتلال التركي، وأن يصمّوا آذانهم على نداءات العالم الذي لا يعترف إلا بالأقوياء وبمن يسيطر على الأرض، وأن يخوضوا معركتهم الحاسمة بمساعدة كل من يعرب عن استعداده لدعم قضيتهم العادلة، قبل أن تتحول بلادهم إلى ثكنة تركية وساحة جديدة للإرهاب الدولي، وعندها قد يحتاجون إلى سنوات عدة لتحريرها وربما يخسرونها إلى الأبد.
تحدى أردوغان مؤتمر برلين والهدنة المعلنة، والعرب والأوروبيين والعالم، وقبل كل ذلك إرادة الليبيين، وقرر أن يدخل طرابلس “فاتحا” ومستهزئا بالشرعية الليبية، وستكشف الأيام أن هناك قوى إقليمية ودولية تدعمه في ذلك، وأن هناك عربا يسيرون في فلك الأتراك تشفيا من عرب آخرين، وأن هناك لعبة دولية تدار من تحت الطاولة ستطيح في حالة إتمام شروطها بالأمن والاستقرار في حوض المتوسط، وعندها سيدفع الجميع الثمن بمن فيهم باعة الأوطان إلى كتائب أردوغان.
لقد أنهى أردوغان الهدنة أو ما يشبهها في ليبيا، وفتح أبواب المنطقة على المجهول، وسيكون على الروسي أن يصمت، وعلى الأميركي أن يتخلى عن تصريحاته البائسة، وعلى الأوروبيين أن يلملموا أوراق فشلهم، وعلى العرب أن يستعدوا للمزيد من الضربات الموجعة، وعلى دول الجوار الليبي أن تجهز نفسها للتعامل مع المعطيات الأمنية الجديدة.
المصدر: صحيفة العرب- الحبيب الأسود