fbpx

أرقام مرعبة عن هجرة الأطباء السوريين نحو أوروبا.. الأسباب والدوافع

لدى “حسّان” الطالب في السنة السادسة في كلية الطب البشري جامعة تشرين (اللاذقية) باختصاص نسائية، احتمالٌ قوّي أن يكون موعد سحبه إلى الخدمة الاحتياطية في أول شهر شباط الحالي، فلم يبق لديه أية إمكانية للتأجيل الدراسي، يفكّر الشاب جدياً بترك “ستاجات” التدريب المتبقية واللحاق بابن عمه “منذر” الطبيب الأخصائي بطب العيون والمتخرج من جامعة “تشرين” في اللاذقية قبل أكثر من عشر سنوات، والمقيم حالياً في مدينة ليون الفرنسية. رغبات علنية بالخروج من البلاد: دخل “حسّان” كلية الطب بناء على رغبة والده، لو ترك له الخيار لكان قد أنهى دراسته في الأدب الفرنسي الذي يحبه ويبدع فيه، يقول الشاب: “في سنوات الطب ترجمتُ عن الفرنسية عدة قصص وأشعار ونشرتها على عدة مواقع إلكترونية”، إلا أنني اليوم أجد نفسي أمام خيار مرير، فلا والدي سيرى عيادة ابنه إن بقيت هنا ـ فالذهاب إلى الخدمة الإجبارية يعني أن سنوات ستمضي في خضم الحرب، وقد أعود حياً وقد لا أفعل، والذهاب في الفرار إلى خارج البلاد سيفضي كذلك إلى حياة بعيدة عن حلم أبي في رؤية عيادة ابنه والمفاخرة به، عدا عن تكلفة الهجرة نفسها التي ستضطرنا إلى بيع عقار على الأقل لتأمين نفقات السفر، لكن أهون الشرين، سيكون الخروج من البلاد”. تراجعت نسبة المشافي العاملة في البلاد أكثر من 60% إضافة إلى خروج عشرات شركات صناعة الدواء أيضاً وبنسبة فوق النصف حسب نقابة الأطباء السورية، هذا أضاف إلى صعوبة الحصول إلى عمل عواملاً جديدة أبرزها غلاء المعيشة وتدني الرواتب العامة (أقل من 100 دولار للطبيب العام، و150 للاختصاصي)، لذلك إلى جوار “حسّان” فإن كثيراً من الأطباء المتخرجين حديثاً يجدون أن بقائهم في البلاد “تضييع وقت وجهد”، ففي أسوأ الأحوال، فإن راتباً حكومياً في أي بلد أوروبي يعادل على الأقل اثني عشر ضعفاً لنظيره السوري. يمتلك “حسّان” ورقة رابحةً في حياته، هي وجود قريبه الطبيب في مشفى فرنسي، وهو، لا شك، سيفتح له بوابة القبول في المكان الذي يعمل فيه، أشخاص آخرون، مثل زميله “محمد” الطالب في السنة الرابعة وغير المختص حتى الآن، ليس لديه أي قريب في تلك البلاد، وسيضطر في حال دخوله نفس المعمعة إلى خيارات مريرة قد لا يلاقي فيها نجاحاً، غير أن محمد يقول: “المشافي الألمانية ترحب بدرجة مقبولة بالأطباء السوريين الخريجين أو القريبين من التخرج، يكفي بالنسبة لهم الحصول على “كشف علامات” مترجم ومصدّق من الجامعة. يعترف “محمد” أن عليه أن يدفع رشوةً (تقترب من مئة دولار، حوالي خمسين ألف ليرة سورية) للحصول على الكشف مصدّقاً من كليته. أرقام قبل الحرب، أرقام بعد الحرب: تعتبر هجرة الأطباء حول العالم باتجاه من أوروبا الغربية وأميركا الشمالية من علامات الهجرة المعاصرة المتواترة منذ الحرب العالمية الثانية إلى الآن، ويسمي اختصاصيو الهجرة، هجرةَ أوروبا (أطباء وغير أطباء) إلى أميركا الشمالية بالهجرة شمال ـ شمال، والثانية هجرةَ جنوب ـ شمال، ولا تتشابه أسباب أي منهما مع الأخرى، فالهجرة الأوربية لا تتعلق بتأمين سُبل العيش الأساسية للطبيب ولأهله كما حال هجرة الجنوب، بل بتأمين مستوى أعلى من الدخل السنوي الذي يتجاوز لدى غالبية الأطباء الأوروبيين سقف 50 ألف يورو، في حين أن وصول الأطباء القادمين من الجنوب في سنواتهم الأولى إلى سقف 20 ألف يورو يعتبر إنجازاً كبيراً لا يناله الجميع. في سنوات العقد الأول من القرن الحالي، بلغ عدد الأطباء السوريين في عموم البلاد حوالي 31 ألف طبيب في مختلف الاختصاصات، كان معدّل هجرتهم إلى الخارج يتركز على دول الخليج العربي بالدرجة الأولى، في حين أن الهجرة باتجاه القارة العجوز كانت في مستوياتها الدنيا (أقل من 2%)، ولم يكن من النادر عموماً وجود أطباء سوريين في مواقع طبية عالية المستوى في ظل سياسات البحث العلمي المتردية في البلاد، إلا أن الجامعات السورية لم تتوقف عن تخريج دفعات من الأطباء بما يعادل 1500 طبيب سنوياً ليصل عدد الأطباء بالنسبة لعدد السكان إلى قرابة طبيب / لكل 625 مواطن، أي باقتراب من النسبة العالمية، خاصة في اختصاصات شائعة مثل الطب النسائي والجراحة والعظمية مع ندرة في أنواع أخرى مثل الطب الشرعي والنفسي والعصبي. مع بدء الحراك في سوريا آذار 2011 بدأت تغيرات كثيرة تطال قطاعات المجتمع والطبية ضمنها، فمع مشاركة هؤلاء في تظاهرات الحراك السلمي تعرض عدد منهم للاعتقال ثم التصفية من قبل الجهات الأمنية (وغير الأمنية) للنظام، وهو المشهد الذي سيسطر على قطاعات أخرى وعلى كل من شارك في الحراك السلمي، ليتكرر المشهد نفسه في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة في سنوات لاحقة، وتفقد سوريا حتى نهاية العام الفائت عدداً من خيرة أطباءها حيث ذكر تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان، منتصف العام 2014، أن حوالي 3 آلاف شخص مرتبط بقطاع الصحة رهن الاعتقال قضى منهم تحت التعذيب 732 طبيباً (حتى اليوم) وفق مصدر آخر في “أوتشا” تشمل مناطق النظام والمعارضة، وتشير إحصائيات توزّع الضحايا إلى أن النسبة الأكبر في حمص، ثم ريف دمشق فإدلب ثم حلب، وفقاً لنفس الشبكة. تهجير بالإجباري، خطف ومطاردات: أدّى تراخي الأمن (متقصّداً أو غير متقصّد) وانتشار التشبيح بأنواعه بعد العام 2012 إلى تعرّض عدداً من الأطباء في مناطق النظام إلى محاولات اختطاف وطلب فديات مالية من أهاليهم أو منهم، بعض من هؤلاء تعرض للقتل دون أن تتحرك أية جهة للدفاع عنهم أو ملاحقة قاتليهم، وهو ما وثق في أكثر من حادثة، فقبل أقل من عامين ضجت مدينة حمص السورية بقصة اختطاف طبيب مشهور بخدمته للمجتمع على يد مجموعة مسلحة في منطقة حي النزهة طلبت مبلغاً مالياً من عائلة الطبيب بلغت 25 مليون ليرة سورية (أكثر من 50 ألف دولار)، ولعدم استجابة الأهل لطلب الخاطفين تم قتل الطبيب ورمي جثته في أحد المجابل الإسمنتية، ولم تتمكن السلطات إلى الآن من معرفة من وراء تلك الجريمة. هذا ما دفع عدداً آخراً من الأطباء للتفكير والعمل على الخروج من البلاد إلى أي منطقة أخرى، خاصة إلى لبنان وتركيا، ومن ثم أربيل العراقية حيث انتقل عدد من أطباء المشافي الحكومية وخاصة أطباء التخدير، إلى هناك بمغريات جيدة، منها السكن والإقامة والراتب (2200 دولار)، يعترف الطبيب “أحمد. ا” المقيم حالياً في أربيل بتعرضه للاختطاف من عيادته على يد ميلشيا الدفاع الوطني نهاية العام 2013 في منطقة بانياس الساحلية، حيث اضطر لدفع مبلغ 4000 دولار أميركي لخاطفيه، ولم ينتظر بعد ذلك وقتاً حتى قدّم استقالته من قطاع الصحة الحكومي ثم توجه إلى أربيل بوساطة أحد زملاءه مصطحباً معه عائلته. تعرُّض مناطق عمل الأطباء والمشافي والمستوصفات إلى القصف والتدمير شكّل عاملاً مضافاً في تهجير قسري لهؤلاء إلى خارج البلاد، فلا يوجد سوى أقل القليل من المؤسسات الصحية لم يتعرض للضرب أو التدمير الكامل كما حدث لمشفى الكندي في حلب (أول مشفى لمعالجة الأورام السرطانية في المنطقة)، بعض هذه المؤسسات تحول إلى نقاط تماس أفضت إلى خلو مناطق بأكملها من أطباء من أي اختصاص. حتى نهاية العام 2014 لم تكن السلطات الحكومية ومنها وزارة الصحة الرسمية قد أعطت هذه الهجرات انتباهاً، فلم تتوقف نقابة الأطباء عن منح أذون السفر، وحتى مطلع العام 2015 كان أكثر من ثلث أطباء سوريا في طريقهم أو وصلوا خارج البلاد، لاحقاً في منتصف العام 2015 أصدرت السلطات الحكومية قراراً يمنع الموافقة على استقالة أو سفر أي من هؤلاء بمن فيهم مساعدي الأطباء (المخدرون خريجو المعاهد المتوسطة) مع دفع بدل مالي على الراتب لمن هم على رأس عملهم (50 دولاراً) إلا أن الهجرات استمرت بشكل غير رسمي. عشرة آلاف طبيب سوري في أوروبا على خلاف دول غربية مثل بريطانيا والولايات المتحدة (وتركيا أيضاً)، التي يحتاج أذن عمل الأطباء السوريين فيها إلى سنوات أحياناً، فإن ألمانيا قدّمت تسهيلات مقبولة للأطباء السوريين للعمل في قطاها الصحي، فهي تمنحهم فيزا قصيرة الأجل تمكنهم من تجاوز ازدحام اللاجئين الآخرين، وحسب الجمعية الطبية الألمانية فإنه حتى نهاية العالم الفائت فإن 2200 طبيب سوري قد دخلوا في النظام الطبي الألماني بعد أن كان عددهم في نهاية 2015 فوق 1500 طبيب وقرابة 500 في العام الذي سبقه، وقبل موسم الهجرة هذه، قدّرت الجمعية الطبية الأميركية عدد الأطباء السوريين في ألمانيا عام 2010 بأكثر من 18 ألف طبيب. تشير مجلة فورن بوليسي في تحقيق لها نقلاً عن أحد مراكز الأبحاث إلى وجود حاجة ماسة لدى القطاع الطبي الألماني للأطباء حتى عام 2030 تقدّر بأكثر من 111 ألف طبيب تحتاجهم لخدمة سكان البلاد البالغ عددهم تقريباً 83 مليون إنسان منهم قرابة مليون ونصف مهاجر في الأعوام 2011-2018 أكثر من مليون منهم من السوريين (نصفهم فقط من المسجلين رسمياً)، عدا عن ذلك، فإن هجرةً للأطباء الألمان (وغيرهم) إلى الولايات المتحدة قائمة منذ عقود. يقول الطبيب “رافع. م” وهو يعمل حالياً طبيب قلبية في مشفى في العاصمة برلين: “انتهيت من اختصاص القلبية قبل عامين، وقمت بتدريبات متعددة في مشفى القلب في اللاذقية، إذ ذاك راسلت المشفى الذي أعمل فيه مقدّماً لهم السيرة الذاتية لي، خاصةً أنني أتقن اللغة الألمانية، قبل أن يتم طلبي إلى الخدمة الإلزامية غادرت سوريا إلى بيروت، حيث قضيت هناك قرابة النصف عام دون عمل إلى أن جاءتني الموافقة على تدريب في نفس المشفى، لم يكن أمامي خيار آخر سوى ذلك، اليوم أتقاضى راتباً مقبولاً جداً قياساً بزملائي السوريين الموجودين هنا”. قسمٌ من الأطباء السوريين في الغرب يعيش كما قلنا في ألمانيا، إلا أن قسماً آخراً يعيش ويعمل في المشافي الفرنسية والهولندية والنمساوية، والسمعة التي يتمتعون بها جيدة وتعلو فيها المهنية العالية في عديد الاختصاصات الطبية، وعددٌ منهم تمكن من تحقيق جوائز عالمية في هذا الخصوص. من جانب ثان تشير دراسة تركية إلى أن قرابة 34% من الشباب القادمين إلى تركيا يحملون اختصاصاً جامعياً، منهم من الأطباء حوالي 9%. إلا أن الأمر هنا لا يتشابه مع الوضع في ألمانيا، فتركيا من جهة أولى لديها اكتفاء مقبول من الأطباء بمختلف الاختصاصات، فكما تقول الدكتورة “ريم. س” المختصة بطب الأسنان من جامعة دمشق التي تعمل سرّاً في أحد مخيمات أنطاليا (لواء اسكندرونة)، فإنّ “عليها أن تعدّل شهادتها بعد حصولها على الجنسية التركية، التي هي الأخرى لا تحصل عليها إلا بعد ثلاث سنوات على الأقل من حياة بلا عمل رسمي”، تضيف الطبيبة البالغة من العمر 28 عاماً: “إنها تعالج الحالات البسيطة التي لا تحتاج إلى عناية طويلة الأمد، مثل الحالات الالتهابية، أما الحالات التي تقتضي الزرع أو الجسور أو الطبعات فإنها غير ممكنة لعدم توفر الأجهزة المناسبة”. إلى جوار “ريم” يوجد عشرات الحالات المشابهة التي لم تتمكن من معادلة شهاداتها في امتحان القبول التركي الذي يجري باللغة التركية، وآخذين بالاعتبار أن نظام التعليم السوري بكامله معّرب وضعيف الصلة بالمصطلحات العلمية والطبية، فإن النجاح في هذه المعركة ليس بالأمر السهل. يقول “أحمد. ا” إن جزءاً من اختياره “أربيل” يعود إلى عدم قدرته على تعلم لغة جديدة وخاصة “لغة تضع المفعول به قبل الفاعل، والفاعل قبل الفعل مثل التركية”، وعلى خلاف أحمد فإن كثيرين ممن وصولوا إلى ألمانيا كانوا قد خضعوا لدورات لتعلم أو تقوية مهاراتهم في الألمانية التي تعتبر إحدى أصعب اللغات في العالم بعد العربية. ويستمر النزيف: لا يمكن فصل ما حدث أو يحدث للأطباء السوريين عن بقية المشهد السوري العاتم إلى الآن. وتوقف هذه الهجرة مرهون بحلٍ متكامل لكل المشاكل السورية العالقة التي لا يمكن حلها إفرادياً بالتأكيد، فهذه البلاد لم تعد تغري بالبقاء فيها ضمن الظروف المتاحة حيث لا مستقبل ولا حياة ولا إمكانية للقيام بأي مشروع ولو على شاكلة “عيادة” أصبحت تكلفتها دون أجهزة عدة ملايين، ومع أجهزة متوسطة الجودة يقفز الرقم إلى العشرة مليون (40 ألف دولار) وهذه ليست بمتناول سوى قلة القلة من الشباب السوريين. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى