نبيل الملحم
لن يتغير العالم بموت اليزابيث الثانية، تمامًا كما أنه لم يتغير بوجودها، فوجود الملكة في المملكة البريطانية كان رمزيًا، وربما احتفاليًا، وبين الرمزي والاحتفالي تاريخ طويل لمملكة كانت الشمس لاتغيب عنها وباتت اليوم واحدة من مفردات السياسات الامريكية أكثر مما هي مساحة للأوروبيين.
ماتت الملكة، ومع موتها تتداعى الذاكرة، ليس ذاكرة العرش، بل ذاكرة بريطانيا بما حملت من مستعمرات في هذا العالم، كل العالم بقاراته الواسعة، وليس ثمة من شك أن الامبراطورية مثلت في لحظة ما، ذروة الاستعمارات القديمة التي لم يتخلص منها العالم حتى وقت قريب، وجنوب افريقيا واحدة من تلك المستعمرات التي شهدت فيما شهدت الفصل العنصري بما له من وطأة ثقيلة على شعوب كان تحريرها بالدموع والدماء، هذا عداك عن مواطن أخرى من بينها مواطن العرب بدءًا من العراق وليس انتهاء بفلسطين، أما عن المملكة، فكل ماكان عليها هو المحافظة على تقاليدها التي لا تستثني خيول الملكة ولا كلابها، وفي لحظة ما، التنورة السكوتلندية لزوج الملكة الامير فيليب وهو الزوج الذي مات وقد بقي على هامش العائلة المالكة حتى وهو يراقص الملكة على إيقاعات موسيقى “القرب” وهي الموسيقى التي اعتمدها التاج الاردني باعتباره تاجًا من مصنوعات الانكليز.
لم يحدث هذا للامير فيليب وحده، فقد سبقته الاميرة ديانا إلى تلك الغربة في قصر باكنغهام، بفارق أن الاميرة عرفت الطريق إلى كسر القواعد، ومن ثم إطلاق العنان لقلبها مع الشاب المصري الأسمر الذي يشبه الخيول، وبذلك خرجت الأميرة من اسطبلات الملكة والمملكة لتموت وحيدة في حادث سير، تاركة ملايين الدمعات على موتها الذي حمل في معانيه ذلك الرفض الشرس لباطنية قصر باكنغهام وبرودة ذلك القصر وصقيع عواطفه، ولم يكن على الملكة الام، سوى الخروج إلى عزاء الأميرة بوجه صارم، وعينين تخلوان من المحبة ومن الدموع أيضًا.
ماتت الملكة، ومع موتها ثمة عالم نسي أن يستحضر تاريخ المستعمرات وقد ارتبط ليس بالملكة بل بالمملكة.. المملكة التي طالما اشتغلت على إدارة الغرف المعتمة في هذا العالم، لتطيح بانظمة، وتستولد انظمة، وفي كلا الحالين لتشتغل على حساباتها ومقاييسها، ولن تعدو حسابات المصالح الاكثر جفافًا في عالم هو مقايضة المصالح بالمصالح.
اليزابيث الثانية ماتت، ومازالت اسطبلاتها ممتلئة بالخيول التي تجر عربة القصر.. عربة ملكة لم تعد تحكم، سوى أنها رمزًا للحكم.. للسطوة، ولاستعمارات مازالت آثارها كما لو وشوم بالنار على اكتاف أمم طالما حبلت من الاستعمارات.
ماتت الملكة، ولم تمت الذاكرة.
مشكلة الذاكرة أنها لاتستدعي عربة تجرها الخيول لتحضر.
للذاكرة البشرية أقدامها التي تحملها.
حتى ولو كانت أقدامًا حافية وقد خلعت أحذيتها خارج بوابات التاريخ.
رحلت الملكة عن قصر باكنغهام.. القصر الذي يساوي بصقيعه القبر، بفارق صالات الكريستال.
ذلك ما أدركته “ديانا” وقد حملت معها لقب “ملكة القلوب”.
المسافة شاسعة ما بين القلب والقصر.