عادت التظاهرات إلى وسط بيروت، وواضح أن المتظاهرين وحتى ظهيرة اليوم، يرفعون مطالب المعيشة، ورغيف الخبز، ووصفة الدواء، دون التحوّل إلى تسييس التظاهر..يفعلون ذلك، لا لأن المطلبية الاجتماعية مستقلة عن السياسة، فالغرق الذي وقع فيه لبنان، لم يأت من فراغ الحياة السياسية، فهو إغراق بفعل (فاعل)، تراكم منذ ثلاثين سنة الى اليوم، بفعل السياسة وقد بلغ اليوم مداه، غير أن المتظاهرينلم يسيسوها، تخوّفًا مما هو أعظم.
ـ وما الأعظم؟
الأعظم، أن تركب القوى واالأحزاب الحركة المطلبية لتأخذها حيث الاصطفافات السياسية، وهي اصطفافات وإن تناحرت على السلطة، فلابد وأن تتناغم في تجويع الناس.. إنها قوى الطوائف، تلك الصيغة التي جعلت من أمير الطائفة جلاّدا للطائفة، وأحالته من (للـ) الطائفة إلى (على) الطائفة، وليس من زعامة طائفية في لبنان بريئة من دم اللبنانيين يوم الاحتراب الأهلي، وليس من زعامة طائفية لبنانية بريئة من الفساد وقد قاد إلى تجويع اللبنانيين، وفوق ذلك ليس من زعامة طائفية يمكن أن تخلي مكانها لما يتجاوز الصيغة الطائفية باتجاه صيغة المواطنة، فالطائفة حصن الزعامة، والطائفة مصدر رزق الزعامة، والزعامة لن تكون بغير الطائفة زعامة، ومن يستعيد التاريخ الحديث للبنان يعرف وبكل اليقين، حجم الاغتيالات التي مورست على شخصيات وطنية لبنانية مثلت مركز إشعاع وقد أتت من خارج الطوائف وعابرة للطوائف، وليس حسين مروة ومهدي عامل سوى مثلين من سلسلة شهداء المواطنة، فيما الزعامات الطائفية مازالت تصول وتجول وتلعب بمصائر الناس متحصنة بالطائفة.
تظاهرات لبنان اليوم، وحتى اليوم، لم تنتج قيادات موحدة، ولا برامج موحدة، وهذا صحيح، غير أن وقائع الحياة موحدة، فالجوع موحد، والبطالة موحدة، وسعر الصرف وحده يصعد ويصعد لتتحول الحياة، مجرد الحياة إلى مخاطرة لبنانية، وهو البلد الذي يتأرجح ما بين الدولة العاجزة عن انتاج جيش يصون استقلالها، وسلاح حزب يسطو على قرار الناس واراداتهم، وبالنتيجة، ليس هذا حال التظاهرات اللبنانية وحدها، فالقمصان الصفراء في فرنسا لم تمتلك بعد قياداتها، وتظاهرات مينيا بوليس كذلك، وكل التظاهرات وأشكال الاحتجاج العالمية اليوم مازالت تنطلق عفويا، ومطالبيًا لتخلو من القيادات، وبالتالي لتحمل في طياتها عاملين متناقضين:
ـ سيكون خلوها من القيادات يعني قطع الطريق على احتكارها.
وسيكون في بعده الآخر، إنقاصًا من توحيد وانتاج برامجها.
غير أنه ما من ثورة في تاريخ الانسانية، إلاّ وانطلقت بهذه العفوية، لتعيد ترتيب نفسها.
حدث ذلك في اكتوبر 2017 وحدث في كومونة باريس، وسترتب الثورات نفسها.
ستكون كما الطوفان.
هل من طوفان لم يعد لترتيب نفسه؟