مرصد مينا – هيئة التحرير
بينما تشهد مدن الجزائر دعوات جديدة لإعادة الزخم إلى مظاهرات الحراك الشعبي، بعد قرابة العام من تعليقها طوعياً بسبب أزمة كورونا، يعود ملف التعذيب والتعنيف والتجاوزات في حقّ الموقوفين في مقرّات الأجهزة الأمنية والاستخبارات، إلى واجهة النقاش السياسي والحقوقي في البلاد، على خلفية إقرارات جديدة لناشطين بشأن تعرّضهم للتعذيب والمسّ بكرامتهم من قبل الأجهزة الأمنية، مع مطالبات بفتح تحقيقات في هذه القضايا، وملاحقة الأمنيين المتورطين في أعمال التعذيب النفسي والجسدي بحقّ الموقوفين، والتجاوزات الأمنية السائدة، في حين تتعالى أصوات منظمات حقوقية وشخصيات قانونية، مطالبة باستقالة أو إقالة وزير العدل بصفته المسؤول السياسي عن القضاء.
ولم تقتصر المطالبات بمحاسبة المسؤولين على الانتهاكات داخل أروقة السياسة والقانون في البلاد، بل وصلت الى مواقع التواصل الاجتماعي، ليتصدر وسم “أوقفوا التعذيب في الجزائر” مواقع التواصل، بعدما كشفت منظمات حقوقية عن تعرّض ناشطين للتعذيب وسوء المعاملة في مراكز المخابرات التابعة للأمن.
قضية جديدة تثير الجدل
بعد أسبوعين من قضية تعذيب واغتصاب الطالب الجامعي والناشط في الحراك “وليد نقيش”، التي أثارت موجة سخط عارمة في الشارع، دفعت السلطات في وقت سابق، الى فتح تحقيق قضائي في وقائع التعذيب داخل الأفرع الأمنية، تطفو على السطح قضية أخرى لناشط آخر، تعرض لنزع الملابس والضرب والشتم والصعق الكهربائي والحرمان من تلقي العلاج واستخدام القوة لانتزاع اعترافات منه، حسبما كشف المحامي “علي فلاح”، في تصريحات صحافية مؤخرا.
“فلاح” أكد أن الناشط “سامي درنوني” أدلى أثناء الاستجواب من طرف القاضي خلال المحاكمة بتصريح “خطير جداً” على مسمع القاضي والنيابة العامة، وأكد أنه حُرم من حقه من العرض على الطبيب، لمنعه من استخراج شهادة طبية تثبت تعرضه للتعذيب، مستغرباً رفض هيئة المحكمة إجراء المحاكمة بشكل علني، على الأرجح خوفا من تفاصيل المحاكمة.
من جهتها، أكدت عضو هيئة الدفاع عن الناشط “درنوني”، المحامية “تبول عبد الله”، إن جملة من الخروقات غير قانونية شابت توقيف والتحقيق مع سامي لمدة 100 ساعة لدى مركز أمني تابع لجهاز المخابرات في منطقة البليدة قرب العاصمة الجزائرية، إذ تعرض لسوء المعاملة والتعنيف بشكل غير مقبول، وحُرم من حقوقه التي يمنحها له القانون، لا سيما حق العرض على الطبيب.
المحامي “خالد عبدالله”، وهو أحد أبرز نشطاء الحراك الشعبي في وهران، يرى أن عودة ظاهرة تعذيب الناشطين، مجرد مراوغة سياسية تعمدت إظهارها الحكومة، لحرف مسار النقاش السياسي والحقوقي في البلاد، وإشغال الناشطين والمنظمات الحقوقية بمطالب لن تشكل خطرا على القيادات السياسية، فيما ستضمن انحراف مطالب الاحتجاجات في حال عودتها الى الشارع بقوة، ليتحول سقف المطالبات بمحاسبة بعض القيادات الأمنية بعد أن كانت تستهدف الحكومة وسياستها.
بالإضافة الى ذلك، يعتقد “عبدالله”، أن الحديث عن انتهاكات داخل السجون سيشكل مخاوف لدى المحتجين خاصة السيدات، ما قد يقلص من أعداد المتظاهرين، ويزيد من حدة العنف المستخدم من قبل المحتجين تجاه الشرطة والأمن، وكل هذا سيمنح الأجهزة الأمنية بحسب “عبدالله”، المبررات لاستخدام العنف في الدفاع عن عناصرها أمام عنف المتظاهرين.
يشار الى أن شهادة الطالب الجزائري والناشط في الحراك المطالب بتعزيز الديموقراطية في الجزائر، “وليد نقيش”، حول تعرّضه للتعذيب على أيدي أفراد الأجهزة الأمنية خلال فترة سجنه، أثارت سخطاً في الجزائر.
ودفعت الضغوط السياسية والإعلامية، السلطات الجزائرية، منتصف شهر شباط\ فبراير الماضي، إلى فتح تحقيق قضائي في وقائع تعذيب داخل مراكز المخابرات، وأمرت النيابة العامة لدى مجلس قضاء العاصمة الجزائرية، بفتح تحقيق داخل المركز الذي اعتقل فيه الناشط.
مراوغة سياسية وتضحية بأمنيين
في الحديث عما قد تصل إليه نتائج التحقيقات، يؤكد المحامي “خالد عبدالله”، أن تولي القضاء أخيراً مهمة التحقيق في قضايا التعذيب، ستنتهي بإدانة أمنيين تورطوا بارتكاب انتهاكات، مشيرا الى أنه شهد ادعاءات مماثلة حول التعذيب وتابع ملفات تخص موكلين تعرضوا للتعنيف أو التعذيب، وتمت إدانة المتهمين.
ويضيف أن السلطات، غالباً ما تلجأ إلى التضحية بهؤلاء الأمنيين واستبعادهم من الجهاز والعمل، حتى لا تحسب تلك الممارسات على الأجهزة الأمنية والحكومة من جهة، ويسمح لها ذلك، من جهة ثانية، بإدراج هذه الممارسات ضمن ما يعرف “بالسلوك المنفرد المعزول”، وتطبيق عقوبات فردية، بما يضمن لها تلافي إدانات الهيئات الحقوقية الدولية التي ما زالت تصنف الجزائر ضمن دائرة الدول المغلقة.
كما شدد “عبدالله”، على أن توجه الحكومة الى التحقيقات القضائية، رسالة للخارج، بالتزام الجزائر الموقعة على اتفاقية مناهضة التعذيب، بالميثاق الدولي لمناهضة التعذيب.
يشار الى أن المادة 12 من الاتفاقية، تفرض على الدولة، قيام سلطاتها المختصة بإجراء تحقيق سريع ونزيه كلّما وجدت أسباباً معقولة تدعو إلى الاعتقاد بأن فعلاً من أعمال التعذيب قد ارتكب.
كما تشدد المادة 13 من الاتفاقية ذاتها، على أن تضمن الدولة لأي فرد يدّعي بأنه قد تعرّض للتعذيب، الحق في أن يرفع شكوى إلى سلطاتها المختصة التي يجب أن تنظر فيها على وجه السرعة وبنزاهة، واتخاد الخطوات اللازمة لضمان حماية مقدم الشكوى والشهود من كافة أنواع المعاملة السيئة أو التخويف.
وينص الإعلان الدولي للحماية من التعذيب على أنه لا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي، مثل حالة الحرب أو التهديد بالحرب أو عدم الاستقرار السياسي الداخلي، أو أي حالة طوارئ أخرى، لتبرير التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة .
ممارسات مماثلة
وفي سياق قضايا التعذيب وممارسات الأجهزة الأمنية، ونشرت الناشطة في الحراك الشعبي بولاية مستغانم غربي الجزائر، “فاطمة بودودة”، تسجيلاً مصوراً تروي فيه تفاصيل اعتقالها العنيف خلال مشاركتها في مظاهرات الحراك الشعبي الأخيرة، واقتيادها إلى مركز للأمن، مشيرة أنها تعرضت للسحب والسحل والإهانة بالإضافة الى تجريدها من ملابسها بعد ما تسبب لها في إصابات في جسدها، قبل أن يتم إطلاق سراحها وتهديدها بالتعرض لها ولعائلتها في حال استخرت شهادة طبية أو قدمت شكوى ضد رجال الأمن والشرطة.
كما أعلنت شخصيات أخرى، بارزة في الاحتجاجات، بينها الإعلامي “عبد الوكيل بلا”، نيتها رفع دعوى قضائية ضد مسؤول مركز الأمن التاسع في العاصمة الجزائرية، على خلفية عمليات اعتقال تعسفي وتعنيف واعتداء جسدي ولفظي وتهديده بالاغتصاب من قبل مسؤول أمني في الفرع، موضحة أنها مصرة على الذهاب بالقضية إلى نهاياتها، لردع الأمنيين عن تكرار هذه الممارسات غير قانونية.
يشار الى أن، اللجنة الوطنية لمناهضة التعذيب في الجزائر، نشرت الأربعاء بياناً دانت فيه ممارسات الأجهزة الأمنية خارج القواعد القانونية، واستنكر البيان تعرض “الناشطين والطلاب والنساء لجميع أشكال العنف والاعتداء الجسدي واللفظي، لمن يُعتقد أنهم ممثلون لمؤسسة يرتدون زيه الرسمي، إضافة إلى انتهاكات لا توصف يستخدمها ضباط الشرطة ضد النساء في المظاهرات”.
كما حذرت مما وصفته “انحراف الأجهزة الأمنية والمساس بالسلامة الجسدية والمعنوية للمتظاهرين، وحملت السلطات العامة المسؤولية.
أما المحامية التي تدافع عن معتقلي الحراك، ورئيسة حزب الاتحاد من أجل التغيير والرقي، “زبيدة عسول”، فقد طالبت باستقالة أو إقالة وزير العدل بصفته المسؤول السياسي عن القضاء، معتبرة أنه لم ولن يتخذ أي إجراء لإثبات سيادة القانون في وقائع خطيرة، وصلت بصفة رسمية إلى علم النائب العام، ولم يحرك ساكناً بشأنها.
استمرار العهود السابقة
تشير تقارير المنظمات الحقوقية إلى أنه خلال فترة الأزمة الأمنية في تسعينيات القرن الماضي، أُطلقت يد الأجهزة لممارسة التجاوزات، ولم تكن الظروف السياسية تسمح بوجود أي مقاومة للتعذيب والتجاوزات الفظيعة التي حدثت خلال تلك الفترة.
وقد نشرت الكثير من القصص التي تحدث فيها ضحايا التعذيب عن طرق بشعة استخدمت ضدّهم في المقار الأمنية، تحت مبرر مكافحة الإرهاب.
هذه الممارسات أشارت لها المنظمات الدولية بشكل خاص، وناشطون حقوقيون في الجزائر، ويمكن ملاحظة أن أحد أبرز الأسئلة التي وجهت للرئيس السابق “بوتفليقة” مباشرة بعد خروجه من مكتب التصويت خلال الاستفتاء حول قانون الوئام المدني، في شهر أيلول\ سبتمبر عام 1999، كانت حول وجود مقار تحت الأرض للاستخبارات يمارس فيها التعذيب، رد عليه “بوتفليقة” في حينه، بغضب حاد، واتهم الصحافي الذي طرحه بالعمل لصالح جهة ما، مؤكداً حينها أن السجون الجزائرية مفتوحة لكل المنظمات الدولية، بما فيها منظمة العفو الدولية.