إذا كانت الحروب ولاّدة التاريخ.. ما حالنا؟

مرصد مينا

على بشاعتها، غير أنها وأعني “الحروب” هي ولادة التاريخ، أقله هذا ما قاله فريدريش هيغل، وهي كذلك لأنها النفق الذي سيفتح فضاءاً مختلفاً ما بعد المرور به، وقد تكون حرب غزة واحدة من روافع هذا التاريخ وولاداته في منطقة لم تشهد سوى ولادات متعثرة وقسرية، وسيكون لحال كذلك أولاً بالنسيبة للإسرائيليين ومن بعدهم للفلسطينيين والعرب على وجه العموم.
الإسرائيليون يدركون اليوم، أكثر من أي وقت مضى مدى “العته” الذي تجر إليه عقيدة الحرب، فالمحاربون هم الضحايا أما صنّاع الحروب فهم في الغرف المكيّفة والمساكن الفاخرة، وهكذا عاد يئير نتنياهو، الابن البكر لبنيامين نتنياهو تاركاً إسرائيل وجيشها للعمليات الحربية، إلى المجمع السكني الفاخر “ذي سليت”، الذي يقضي فيه وقته في ميامي بهدوء. لن يُقتل في خان يونس، في الوقت الذي يكرر فيه والده شعار “سنواصل الحرب حتى الانتصار الكامل”. هو يقصد أن أبناء الآخرين سيواصلون هذه الحرب.
وهكذا حال ابن يوآف غالانت أيضاً لم يعد من المكان الذي يعيش فيه في شيكاغو من أجل الانضمام لرجال الاحتياط في سلاح البحرية، في وقت يتفاخر فيه والده بقول “سحب الدخان التي تنبعث من الدبابات والمدافع وسلاح الجو ستغطي سماء غزة”. ويقصد أن أصدقاء ابنه سيحرقون المكان.
أما ابن بتسلئيل سموتريتش فبلغ العشرين سنة، ولم ير أن التجند أمر واجب؛ فهو يتعلم في مدرسة دينية. في حين يعلن والده: “وقف الحرب خطوة خطيرة”. ويقصد أن يقوم بعمل ذلك شباب آخرون، مثلاً عائلة آيزنكوت. ليس هناك بالطبع واجب يفرض أن على أبناء كبار قادة المستوى السياسي المشاركة في الحرب التي تشعل الآباء. ولكن أليس من المناسب على الآباء أن يفرضوا على أنفسهم القليل من التواضع؟
الخطاب الذي يسيطر على إسرائيل غير محتمل. لا توجد وقاحة أكثر من الحديث باسم الذين يسقطون في المعركة. لا أحد يعرف ما الذي أوصى به الذين سقطوا في المعركة. بالمناسبة، حتى لو كان من بينهم من ترك رغبات خطية أو شفوية بخصوص الحرب، فهذا لا يسري على مصير الجنود الآخرين. إعلانهم بشكل تلقائي بأنهم ملزمون بمواصلة الحرب حتى النهاية وإلا “سيكون موت الجنود عبثاً”، هو منطق مشوش تماماً. والمعنى أنه سيكون بالإمكان تبرير الموت السابق بموت آخر، وهكذا دواليك.
تلك وقائع تحكيها ها آرتس لتتابع:”الانتصار التام”، هذا هراء، شعار لحملة بائع فرشات، لا شيء كهذا. من الذي يقرر؟ وأصلاً، ليس أمام إسرائيل احتمالية للانتصار، سواء كان مطلقاً أو غير مطلق، بعد ضربة 7 أكتوبر، وبعدد عدد الجنود والمدنيين القتلى وقضية المخطوفين.
“هآرتس” واصلت بين حين وآخر نشر مقالات مثيرة، حيث يتوجه الكتاب فيها بصورة شخصية إلى قلب نتنياهو. هذا مثير للشفقة. هناك فائدة أفضل في التحدث مع الحجارة. اللغة الوحيدة التي يفهمها هي القوة والضغط والتهديد.
الأمر الذي يخرج الإنسان عن طوره هو كارثة فظيعة مثل كارثة الـ 21 جندياً جراء انهيار مبان فخخوها. ومساعدون مثل إسحق هرتسوغ وبني غانتس، ما زالوا يتساوقون مع الرواية والشعارات. إذ قال رئيس الدولة إن القتلى “طبق الفضة”. ما هذه الدولة التي تم تقديمها على هذا الطبق في هذا الأسبوع؟ دولة خانيونس؟ لماذا يقتل الجنود في هذه المرحلة في القطاع؟ ما هي أهداف القتال، ما الخطة وما الهدف؟
بعد مايزيد عن مائة يوم من القتال في غزة، بات على الإسرائيليين القول أن القتال نفسه لا يعتبر قيمة مقدسة، وليس موت المزيد من الجنود والمخطوفين أمراً مقدّساً.
غزة والكلام “لهآرتس”، كما يبدو هي الهدف الأكثر تحصيناً في تاريخ العالم. لم يعد لدينا ما نبحث عنه هناك. وإن فتحة أخرى مدمرة ومبنى آخر مفخخاً، لن يغيرا الصورة. لقد تم تدميرها بما فيه الكفاية، والرسالة أرسلت. علينا إخراج الجنود من هناك، وإعادة المخطوفين والاستعداد بقوة على الحدود، والسماح لقوات إقليمية ودولية بالانشغال فيها. الانتصار المطلق الوحيد الذي يمكن تمنيه هو عزل رئيس حكومة الفشل والدمار، وتقديمه لمحاكمة الناخب ومحاكمة التاريخ.
الإسرائيليون، ولنقل الأصوات التي تأتينا منهم تكرر القول بـ “لاقدسية الحروب”، وعلى الطرف الآخر، ما أن ينهض الغزاويون من تحت ركام المباني المدمّرة، ليتذكروا ضحاياهم حتى يتساءلون:
ـ بأي طبق من فضّة قدمنا أولادنا ضحايا؟
بعدها سيسارعون إلى البحث عن أولاد خالد مشعل وإسماعيل هنية وعن الفنادق المترفة التي يتمددون على أسرّتها.
بعد هذا وذاك على الحروب أن تكون:
ـ ولاّدة التاريخ.
وأيّ تاريخ نعني؟
ـ نعني دفن الحروب كي لا نتحوّل إلى أطباق من فضّة لملتهمي أجساد أولادنا.

Exit mobile version