المعركة في غزة، بل وفي شوارع إسرائيل، تلك حقيقة، ولكن المخاوف في لبنان اليوم، وعلى لبنان اليوم، وتلك حقية ثانية.. مخاوف من أن تنتقل الحرب اليه، أقله و”حزب الله” جاهز للاستثمار في حرب غزة.
اللبنانيون، وأيديهم على قلوبهم يعرفون أنهم غرقى الفساد والمجاعة والسلاح المتفلت في “الدولة داخل الدولة”، فإذا ما انتقلت الحرب اليهم، فلهذا معنى واحد:
ـ الانتقال من “كُحل” الأزمات الخانقة، إلى “عمى” حرب لن تبقي ولن تذر وصولاً إلى نهاية لبنان.
لبنان المنقسم على نفسه، وغير الراضي بما هو عليه، لافي الخيارات ولا في الهوية.
مع الأشهر الأخيرة من ولاية ترامب، كان “حزب الله” قد “حذّر” من تسخين المنطقة مع إسرائيل خوفاً من رد مؤلم.
بطبيعة الحال، كان على حزب الله تجنّب الوقوع في فخ الحرب، لمجموعة من الاعتبارات يأتي في مقدمتها، جاهزية القوات الأمريكية، لضرب حزب الله، بما يهدد باجتثاث الحزب.
اليوم يختلف الوضع، فمع ادارة بايدن، وسياساته المتراخية، سيشعر “حزب الله” براحة كافية ويخاطر بالتصعيد ، وصولاً لإطلاق صواريخه من الجنوب، لا لنصرة غزة، بل لنصرته على اللبنانيين، فيحسم بالحرب ما لم يحسمه بالسيطرة على الحكومة اللبنانية والبرلمان اللبناني وارهاب اللبنانيين.
صحيح أن إدارة بايدن لم تستكمل بعد بلورة سياستها إزاء لبنان و”حزب الله”، لكن قيادة التنظيم، وشبيهاً براعيته إيران، تقدر بأن نافذة فرص فتحت أمامهما لتحقيق مصالح مقابل إسرائيل وفي الساحة اللبنانية.
تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية وكانت قد نشرت نهاية السنة الفائتة، قالت بأن “حزب الله” سيقوم بمواجهات محدودة وقصيرة “أيام قتال”، في السنة القادمة (أي في هذه السنة). وتبادل الرسائل العلني بين الحزب وإسرائيل يدعم هذا الانطباع. وإذا نفذ “حزب الله” عملية تؤدي إلى مواجهة عسكرية فستقف إسرائيل أمام معضلة.
المعضلة هي:
ـ هل سترد وكيف؟
هل ستحتوي إسرائيل الأحداث أم ستعتبرها ذريعة للقيام بعملية عسكرية واسعة تضر ببنية إيران التحتية (ولها مساحة عبر حزب الله في لبنان) التي تشكل تهديداً استراتيجياً لها.
مؤخراً، يظهر ارتفاع في استعداد الحزب للمجازفة باحتمالية مواجهة عسكرية مع إسرائيل. ويمكن عزو ذلك إلى انتهاء فترة ضبط النفس التي فرضها على نفسه في الأشهر الأخيرة من ولاية ترامب، غير أن الوقائع تقول بتعاظم جرأة “حزب الله” ما بعد إدارة جو بايدن، وتنبع هذه الجرأة من تقدير الحزب بأن الإدارة الأمريكية الراهنة “رخوة”، فيما إسرائيل منشغلة بشؤونها الداخلية بسبب تداعيات كورونا والأزمة السياسية، وأنها غير متفرغة لإدارة معركة عسكرية تكتنفها المخاطر، إلى جانب فرصة سانحة في أعقاب استبدال إدارة الولايات المتحدة.
كما نذكر، في الأشهر الأخيرة لولاية ترامب كان من الواضح أن “حزب الله” يستخدم سياسة حذرة في نشاطاته على الحدود بين إسرائيل ولبنان. وهو يجد صعوبة في ترسيخ معادلة الردع التي وعد نصر الله بتطبيقها بالقوة أمام الجيش الإسرائيلي، ومن نماذج الحذر إياه كان امتناع “حزب الله” عن أي نشاط ضد إسرائيل على طول الحدود مع لبنان في أعقاب تصفية عالم الذرة الإيراني، فخري زاده (تشرين الثاني 2020)، التي نسبت لإسرائيل، بذريعة أن الرد يجب أن يكون من جانب المتضرر، أي إيران (ويبدو أن نشر هذا الموقف استهدف أيضاً تهدئة الانتقاد الداخلي في لبنان على أن الحزب يقوم بخدمة إيران).
تلك وقائع ما قبل “حرب غزة”، غير أن ما قبل غزة، قد لايكون كما بعدها، ففرصة حزب الله في الاستثمار بهذه الحرب، قد تكون الفرصة التي لن يتوانى عن استثمارها، والصواريخ التي اطلقت من جنوب لبنان بالأمس، باتجاه المستوطنات الإسرائيلية وضلّت طريقها لتسقط في البحر، لابد ولحزب الله يد فيها حتى لو نسبت إلى فصائل فلسطينية “غير منضبطة”، فـ”إذا ما تكررت الـ “غير منضبطة” تلك فلهذا معنى واحد:
ـ انتقال الحرب إلى جنوب لبنان، وربما أبعد من تموز 2006.
ستكون أبعد لمجموعة من الاعتبارات، اول هذه الاعتبارات أنه من غير المسموح لنتنياهو وحكومته لا نصف انتصار ولا نصف هزيمة، فالرجل غارق إسرائيليًا في حال لم ينجز انتصارًا نهائيًا، يعفيه من المحاكمة والخصوم في الداخل الإسرائيلي، وهذا سيقود بالنتيجة إلى ذروة السلاح، بما يعني استخدام كل ما لديه لتكون حرب تموز، مجرد لعبة في مقاييس الحرب القادمة إذا ما وقعت.
ـ ستكون حرًبا لبنانية / لبنانية، فاللبنانيون الذين خسروا الدولة تحت شعار المقاومة، لم يربحوا مقاومة، حتى بات حزب الله (عليهم) لا (لهم)، لتغدو لبنان خاصرة إيرانية بعد أن كانت شمالاً لإسرائيل، وليس في الأمر ما يدعو إلى التفاضل ما بين احتلالين.
بالنسبة لحزب الله، سيعثر ربما على نجاته في مثل هذه الحرب، فرغم ادعائه الربح من شل النظام السياسي في لبنان، والهيمنة عليه، فإن الواقع البائس في لبنان أدى إلى زيادة انتقاد الجمهور للحزب، بما في ذلك جمهوره من الطائفة الشيعية ، وحملة “حزب الله” الواسعة التي قاربت عبادة شخصية قاسم سليماني، والمتابعون لها، يعرفون بالتمام والكمال حجم القرف والغثيان الذي أصيب به اللبنانيون، وحصرًا الشيعة وصولاً الى جمهور حزب الله.
مع “غزة” اليوم، قد تكون الفرصة مواتيه لحزب الله، فرصة أن يستعيد دوره من استعادة ما يسميه مشروعية السلاح ومعادلة الردع.
ـ كيف سيكون ذلك؟
سيكون وفق السيناريو التالي:
ـ تنطلق صواريخ من الجنوب اللبناني على مستوطنات اسرائيلية، ثم تنسب إلى فصائل فلسطينية منفلتة.
يخرج الإسرائيليون من ضبط النفس، ويردون على الصواريخ بالمسيرات أو الطيران أو الصواريخ المضادة.
تشتعل المعارك الصغرى وتتطور وصولاً الى الحرب الشاملة.
مبررات حزب الله ستكون جاهزة.
ـ إنها معادلة الردع.
ومع الحرب الشاملة سيكون دمار ما تبقى من لبنان، وهو الدمار الذي لن يضير بطهران، ولا بحزب الله.
الدمار وحده سيكون الولاّدة الجديدة لهذا الحزب الذي لاتقتله الحرب، بل يقتله السلام.
كل الخوف اليوم على لبنان.