
نبيل الملحم
سينكر عليّ القارئ قولي بأن “المؤامرة رافعة التاريخ” بل و”جنازته”، غير أن إنكارها لا يساوي سوى اعتبارها “رافعة وجنازة” بمفردها ووحدها.. لا يساوي سوى اعتبارها “القدّر”، غير أننا إذا ما أنكرناها فهذه مكابرة، وإن وطّدناها فهذا تسليم بها، فهي (وأعني المؤامرة) كائن يتجوّل بيننا، خصوصاً حين يتصل الأمر بالحروب الأهلية، فمع كل حرب أهلية، يظهر من يقول إن “المؤامرة” مجرد شمّاعة يعلّق عليها الضعفاء هزائمهم، أو خطاب يستغله الطغاة لتبرير عنفهم، لكن مراجعة نزيهة للتاريخ، القريب والبعيد، ستكشف أن “المؤامرة” ليست دائماً وهماً، بل كانت في محطات مفصلية فعلًا من أفعال التاريخ، تُصاغ في دهاليز الاستخبارات، وتُنفّذ بأيدٍ محلية، ثم تُروى كـ”صراع داخلي” أو “اقتتال أهلي”.
في حال كهذا تعالوا نستعين بالواقعة التاريخية:
ـ حين قرر محمد مصدق تأميم النفط الإيراني، كانت بريطانيا والولايات المتحدة، تعتبران أن الديمقراطية ليست مناسبة لإيران إن لم تكن تابعة، فجاءت المخابرات البريطانية بالتعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية، لتدبر انقلاباً أعاد الشاه، وأغرق البلاد في عقود من القمع.. الطرف الثالث هنا لم يكن وهماً، بل وثائق أرشيفية كشفت لاحقاً تفاصيل العملية.
ـ تشيلي – الانقلاب عل سلفادور أليندي (1973): سلفادور اليندي، لم يسقط بفعل المعارضة الداخلية، بل بانقلاب رعته الـ سي آي أي، كان دعم واشنطن للانقلاب يتعدى المال والسلاح، ليشمل حتى فرض الحصار الاقتصادي الخانق، على حكومة منتخبة، لخلق ظروف انهيارها.
ـ رواندا (1994)، وفي واحدة من أفظع الإبادات البشرية، لعبت فرنسا، دوراً خفياً في هندسة الانقسام بين الهوتو والتوتسي، ثم انسحبت، وراقبت المجازر من بعيد، وحين ذابت ثلوج الحرب الأهلية، وبان سخامها، ابتدأت تتكشف اللعبة، وما من محكمة أرضية أو إلهية تقول للسيد ماكسميليان روبسبير، لقد هدر أحفادك حق الحياة في رواندا، كما لم تتوقف السيدة كوكوشانيل عن هندسة الأزياء فيما حكومتها تهندس للأفارقة مقابرهم.
في البوسنة ومذابح سربرنيتسا، لم يكن صمت الأمم المتحدة أو تقاعس “قوات الحماية” الدولية عن منع مجزرة أكثر من 8000 مسلم بوسني سوى فعل تواطؤ، ولو بالصمت.. المؤامرة هنا لم تكن في الفعل بل في الامتناع، في السماح للذبح بأن يتم على مرأى العالم ومسمعه.
ونأتي إلى سوريا:
ـ هل بدأت الثورة السورية مؤامرة؟
الجواب لا.. كانت صرخة في وجه الاستبداد، مثل غيرها من ثورات الربيع العربي، لكن، هل بقيت ثورة بريئة وقد تحولت الأرض السورية إلى ساحة صراع دولي بالوكالة؟
ـ أمريكا دعمت مجموعات بالسلاح ثم انسحبت، تاركة الساحة لغيرها.
ـ روسيا دخلت بثقلها في 2015، لا لحماية السوريين، بل لحماية نظام حليف ومصالحها العسكرية والغازية.
ـ إيران زرعت ميليشياتها منذ اليوم الأول.
تركيا تعاملت مع سوريا كحديقة خلفية لتحييد الكرد، لا لنصرة الشعب السوري، فكانت معبراً وفندقاً لكل ضباع العالم، ممن لفظتهم بلدانهم وعثروا على ممرات آمنة إلى سوريا.
ـ وإسرائيل؟
قصفت مراراً، حين شعرت أن ميزان القوى يقترب من المسّ بتوازن الردع شمالها.
كل هؤلاء أطراف ثالثة، لم يحملوا راية الشعب السوري، بل رايات مصالحهم، وجميعهم شاركوا في تحويل الثورة إلى فوضى، والصراع إلى حرب مفتوحة، وها هي تنتهي بحرب أهلية.
ما الذي يمكن أن يُقال بعد هذا؟
إن إنكار فعل “المؤامرة” في التاريخ هو إنكار لأداة صراع فاعلة، استُخدمت مراراً في إعادة تشكيل الجغرافيا وإسقاط الحكومات، وبناء أنظمة تابعة أو فاشلة، ولعل سؤالًا بسيطًا في الأدب يكشف عمق هذا الحضور:
ـ هل ثمة مسرحية من روائع شكسبير خلت من فعل المؤامرة؟
من “يوليوس قيصر” إلى “هاملت”، ومن “عطيل” إلى “الملك لير”، كانت المؤامرة دومًا المحرّك الخفي للانهيار، للمأساة، وللموت، ولدس السُم في أذن الملك النائم.
وإذا ابتعدنا عن خشبة المسرح إلى خشبة التاريخ المعاصر، فإن غزو العراق عام 2003 لا يزال مثالًا حيًّا عن مؤامرة حيكت في العتمة، ادُّعي فيها وجود “أسلحة دمار شامل”، وروّج لها الإعلام والسياسيون، ثم جاءت الاعترافات لاحقًا، حين صار الخراب واقعًا لا يمكن تداركه.
هو الحال كذلك:
ـ المؤامرة تولد في العتمة، ويتأخر الضوء كثيراً حتى تنكشف.
وحين ينكشف، غالبًا لا يجد أحدًا لينقذ ما تبقّى.
ولا ندري، متى ينكشف الضوء على المسرح لنرى بأم العين ونسمع مارسيلوس شكسبير وهو يردد:
ـ لا تأتي الرائحة من الجثث، بل من المؤامرة.
لنتابع معه:
ـ ثمة شيء عفن في مملكة الدانمارك لم يُكشف بعد.
كل ماعلينا أن نستبدل كلام مارسيليوس، بالقول:
ـ ثمة شيء عفن في جمهورية الخوف السورية لم ينكشف بعد.
دون أن يكون بوسعنا مداراة رائحة الجثث.
جثث من نحبهم.. أهلنا.