نبيل الملحم
الكل يعرف كيف ابتدأ، ولا احد يعرف إلى أين سينتهي، الكل إلى الجدار وبلا أفق، هذا هو الحال، فلحظة اطلقت “حماس” ما أسمته “طوفان الأقصى”، كانت لابد تعرف أن لن يكن بمستطاعها “رمي إسرائيل في البحر”، ولحظة جاء الرد الإسرائيلي بكل توحشه وصولاً إلى التلذذ بالقتل، لم يكن يعرف نحو أيّ أفق يتجه مع علمه بأن حرباً خاطفة أو شاملة لن تقتلع “حماس”، وإذا ما اقتلعتها فلن تقتلع التطرف المستولد من هدر الحقوق الوطنية الفلسطينية، وهكذا انطلقت الحرب إلى دائرة مفرغة، لن تنتج أفقاً يساوي ضحاياها، بل وضحاياها من الطرفين، فبالنسبة للإسرائيليين التقطوا ما يزيد عن الف قتيل من ثكناتهم ومستوطناتهم، أما “غزة” فهي إن لم تدمّر كاملة فقد لحق بها الدمار بما جعل دماء الغزاويين تفيض عن تحمل أي شعب لأيّة نكبة.
عالم اليوم، وهو العالم الأشد قلقاً تبعاً للمتحولات الهائلة التي ابتدأت مع الحرب الروسية الأوكرانية، لابد فقد بوصلته، وانشطر إلى كتلتين متحاربتين، الغلبة فيها لا لأحد، والكوارث فيها تطال المدنيين الذين إن لم يفقدوا حياتهم افتقدوا إيمانهم بالحياة، فالوجع أقسى من أن تحتمله الطاقة البشرية التي زوّد بها هذا الكائن المدعو “بني آدم”، وهكذا ستأتي حرب غزّة في إطار هذه القيامة الفظيعة وقد باتت النيران هي الوسيلة الوحيدة لإطفاء النار، حتى باتت المعادلة:
ـ نار لإطفاء نار.
وهي معادلة ساقطة بكل تجلياتها كما ساقطة بأهدافها التي تعني “لا هدف”.
الإسرائيليون اليوم يقعون تحت وابل من “الحيرة الوجودية”، وهذا ما نلمسه من مداخلة مؤثرة لعضو كنيسة إسرائيلي، ندّد بحكومته وبالحرب، تماماً كما يمكن قراءته، أقله من الأصوات اللبنانية التي تتخوف من الحرب وتعارضها، وتسأل فيما تسأل عن أهدافها، وهو سؤال الضحايا، أما المتحاربون، فلابد مستغرقين بالحرب، وعلى ضفتيها، فلا لحماس هدفاً محدّداً سوى الخطاب التعبوي الذي سيعيد إلى ذاكرتنا خطابات أحمد سعيد بدءاً ومحمد سعيد الصحّاف لاحقاً، ولا القيادات الإسرائيلية تنتج هدفاً محدداً لحربها سوى لغة الثأر، وبالنتيجة قد تتسع الحرب، وتراكم الضحايا، سوى أنها لن تنتج عالماً جديداً، ولن يكون لها إلاّ الضحايا والطريق المسدود، وهي صيغة ربما تجاوزتها حروب الماضي، فيوم اندلعت حرباً كما الحرب العالمية الثانية، انتجت فيما أنتجت عالماً جديداً من منتجاته هيئة الأمم المتحدة، ومن منتجاته أيضاً انقسام العالم إلى معسكرين، ذهب كل منهما إلى سباق أفكار وقيم، تماماً كما ذهب إلى سباق تسلح ليعزز الفكرة بالقوة.
حرب غزة، هي حرب عميان بمواجهة عميان في غرفة زجاجية، وها نحن جمهور المتفرجين نطل على المتحاربين لـ “نُقتَل”، ما يستبعد أيّ فكرة للسلام أو لقبول الآخر، دون نسيان :
ـ ولا لاقتلاع الآخر.
لاهي حرب تقود إلى سلام ما بعده يلتفت الزارع إلى محصوله.
ولا هي حرب إلغاء أيّ من طرفيها، يخرج المغلوب فيها مطأطئاً رأسه فيما الغالب يفرض سياسته وعمارته وقيمه.
هي العبث، ولكن ليس ذاك العبث الخلاّق الذي اشتغل عليه مسرح من مثل مسرح يوجين يونسكو، إنه عبث:
ـ الدم بالدم.
فقط الدم مقابل الدم.