هي صدفة تاريخية محضة أن يأتي جنرال من طراز “سوار الذهب” يصل السلطة ثم يلقي بعصا الماريشالية ويقول:
ـ استقلت.
ومن بعدها يشق طريقه إلى أحفاده ليحكي لهم الحكايا ويستمتع بكونه “بني آدم” بلا رتبة.
مرة واحدة حدث ذلك، وهذا تاريخ السودان يقول بالانتقالات من جنرال إلى جنرال، وما أحد من جنرالاته غادر السلطة إلاّ بالدم، وهاهو اليوم يستكمل تجربة الدم ربما بأقسى مظاهرها ليعطّل أهداف ثورة السودانيين الحالمين بنظام مدني ديمقراطي، بعد أن أطاح بعمر البشير الذي اطاح بسابقه من الجنرالات، ليأتي العسكر ويستولون على السلطة ويتقاسمونها بتواطؤ مثير، ومن ثم يتنافسون فيما بينهم وصولاً الى الاحتراب، وهو الاحتراب الذي لابد ويقود السودان إلى واحد من احتمالين:
ـ تقسيم الثلثين المتبقيين من السودان فتكون “دولة دارفور” مقابل “دولة الخرطوم”، وإما “صوملة السودان” بما لايبقي على الدولة إلاّ بصيغة “الدشم” وقطاع الطرق واللصوص.
واحد يسيطر على “ذهب دارفور” والثاني يسيطر على “مجرى النيل”، وهما المتشابهين اللذين يحمل أولهما اسم “البرهان” والثاني يحمل اسم “دوقللي”، ومن السخف أن يُظن بأن أيّ منهما يعنيه السودان، وقد انفضت الشراكة بينهما، وأُفرغ السودان من أي حلم ديمقراطي يمنح “سلّة الغذاء العالمي” فرصة بأن تطال الرغيف، بعد أن توغل كل منهما في ارزاق ودماء الناس.
الحرب ابتدأت، وهاهي في أسبوعها الاول لم تراع
أية حرمة لدماء المدنيين العزل والأبرياء من أبناء السودان، فسقط عشرات القتلى خلال ساعات قليلة من اندلاع الاشتباكات، وزاد في المأساة أن المتحاربين منعوا أطقم الإسعاف والدفاع المدني من التدخل ونقل الجرحى والمصابين إلى المشافي.
صراع الجنرالات، شركاء الأمس أعداء اليوم في السودان لا يشذ عن سلسلة قواعد حكمت سلوك العسكرتاريا في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، وليس انعدام المفاجآت سوى المظهر الثاني لانطباق تلك القواعد على واقع الحال.
إنهم “العسكر” لعنة التاريخ، تلك اللعنة التي اجتاحت مواطن العرب إن لم تكن بالجيوش الرسمية فبالميليشيات، فهذه سوريا قدّمت مثالها، وكانت ليبيا قد سبقتهما إليه، أما اليمن السعيد، فلم يبلغ لحظة سعادة واحدة منذ أن حلّ السلاح محل الحوار.
أيّام وتبدأ إحصائيات القتلى، فمن لم يُقتَل، سيواجه رحلة البحر والشتات، ومن (لم) فهو بانتظار موته.
موت بالمجّان.
لعنة العسكر.. جذام التاريخ.