السودان من الداخل 3/3

مرصد مينا – ملفات

في بلاد الـ 500 قبيلة.. حروب وصراعات هوية جففت سلة الغذاءالعربي 

على الرغم من دخول السودان مرحلة جديدة في النظام السياسي الحاكم، بعد إسقاط نظام الرئيس السابق، “عمر حسن البشير”، في نيسان 2019، لا تزال البلاد تعاني من أزمة الصراعات الداخلية والقبلية، الممتدة منذ قرون، والتي لا يزال عدد كبير منها مستمر حتى يومنا الحالي، بما يهدد وحدة البلاد وإمكانية دخولها في صدامات مسلحة طويلة الأمد.

تعليقاً على قضية الصراعات العرقية والعشائرية في السودان، يلفت المختص في تاريخ شمال ووسط إفريقيا، “عثمان سعيد نوبي” إلى أن السودان من الناحية الديمغرافية يتكون من خليط عشائري واسع، بينها العشائر العربية وعشائر من أصول إفريقية، معتبراً أن المجتمع السوداني تكون في أساسه على  الصبغة العشائرية والتي لا تزال تهيمن على العقلية الاجتماعية، ما فتح المجال أمام وقوع الكثير من الصراعات حتى في العصر الحديث مع مطلع القرن 20.

دولة من الكانتونات يغذيها الجهل

مع تناوله لأزمة الحروب القبلية في السودان، يصر “نوبي” على ضرورة  شرح بعض الأمور المتعلقة بالمجتمع السوداني لفهم أسباب استمرار هذا النوع من الحروب على الرغم من كافة التقلبات السياسية، التي مرت بها البلاد وتغير أنظمة الحكم السياسي، لافتاً إلى أن السودان بهيئته الكاملة يمكن تشبيهه بدولة الكانتونات، التي تمثل العشائر أساسها والنواة ، التي تقوم عليها، خاصة في ظل ما تتمسك به تلك العشائر من عادات وتقاليد خاصة منفصلة عن محيطها الوطني، الأمر الذي يوصل إلى نتيجة أن العشيرة في السودان هي عبارة عن مجتمع مغلق تماما يعيش ضمن مجتمع أوسع منه يضم مجتمعات مغلقة أخرى.

كما يضيف “نوبي”: “الدولة السودانية على طول الفترة التاريخية التي شهدت قيام السودان لم تتمكن من فرض نفسها كنظام سياسي حاكم على أسس الدولة  العصرية، بل دائماً كانت متأثرة بمسألة العشائرية سواء من ناحية هيمنة العشيرة الحاكمة على المناصب وقيام النظام على أسس عشائرية أو من خلال المواجهات أو الصدامات، التي أرهقت البلاد واستنزفت ثرواتها واقتصادها، مذكراً في سياق حديثه بأزمة الجنينة التي لا تزال مشتعلة حتى الآن.

يشار إلى أن مدينة الجنينة السودانية قد شهدت قبل أسابيع صدمات عشائرية بين قبيلتين إحداها عربية والأخرى إفريقية، والتي أدت خلال أيام قليلة إلى مقتل 132 شخص وإصابة 208 آخرين، بحسب ما أعلنه حينها والي غرب دارفور، “محمد عبدالله الدومة”.

في ذات السياق، يشير “نوبي” إلى أن شيخ العشيرة أو زعيم القبيلة يعتبر تقريباً منصباً غير رسمي ويملك تأثير كبير في البلاد من خلال زعامته القبلية وارتباط أفراد تلك القبيلة بقرارات زعيمهم، وهو ما ساعد كثيراً في مسألة السلاح المنفلت وتكون جيوش صغيرة تعتبر خط دفاع أول عن القبيلة، بغض النظر عن قضية الدولة والانتماء الوطني، كون الانتماء للقبيلة غالباً يسبق الانتماء للوطن.

إلى جانب ذلك، يشدد “نوبي” على أن ضعف منظومة التعليم في الكثير من مناطق البلاد وانتشار نسبة الأمية والجهل في تلك المناطق رسخت قيم العشيرة والانتماء العشائري، على اعتبار أن الفرد لم يمتلك فرصة للاطلاع على عالم ما هو خارج أسوار تلك العشيرة والاطلاع على مفاهيم جديدة تمكنه من تحرير نفسه من تلك الانتماءات، لافتاً إلى أن إحصائيات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم كشفت أن السودان يتصدر قائمة الدول العربية من جهة نسبة الأمية التي وصلت إلى 73 بالمئة.

من جهته، يقول الباحث في المركز الديمقراطي العربي، “عبد الله أحمد جلال الدين محمد” في بحثه “الدولة والقبيلة في السودان”: “التجديد الذي يحدث بفعل التعليم والإعلام والتجارة والتفاعل الاجتماعي والسياسييتم قتل نتائجه بتفعيل آليات الصراع بين القبائل كما هو الحال في كل من دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان وغيرها من المناطق الأخرى في السودان، وهذا أسهم في إعادة إنتاج القيم السلبية كالثأر والإحساس بالخوف من الآخر والتكتل لمواجهته، وتفعيل العصبية كمحدد جوهري للفعل، وأسهم أيضا في السير بالقبيلة في اتجاهات سلوكية عصبوية سهلت بناء جماعات متنافرة ومتنازعة، وهذا بطبيعة الحال أدى إلى خلق قيادات مشائخية متعددة في منظومة القبلية الواحدة والتي غالبًا ما تكون خاضعة لقوة أكبر منها على رأس المنظومة القبلية، وقوة الرأس تعتمد على قوة تحالفاته وقدرته على إدارة صراعاته بالدهاء العشائري، وتلعب قوته المالية والسلطوية في منظومة الدولة دورًا فاعلًا في تعزيز قوّته وهيمنته”.

كما يرى “جلال الدين محمد” في بحثه أن أن الدولة فقدت هيبتها بفعل قوة زعماء القبائل وتحولت إلى مجال للغنيمة فنتيجة عزل القبيلة كأعضاء عن الدولة لصالح النخب القبيلة وعجز الدولة عن التعبير عن المجموع الوطني ومصالحه أصبحت الدولة في إدراك الناس وتصوراتهم حالة طارئة، وقانونها لا يطبق إلا على الضعفاء؛ لذا فإن أغلب الخاضعين للدولة من عموم الناس يحسون بالظلم والقهر وهذا جعل علاقتهم سلبية بالدولة، لافتاً إلى أنه عندما تصبح القبيلة مصدر شرعية الدولة وكلاهما مرتهن بالفعل الأصولي فإن الدولة تصبح ضعيفة وهشة، وكلما ضعفت المؤسسة العسكرية والقوى الحديثة أو تحالفت بعض القبائل مع الدولة ضد قبائل أخرى، يصبح الصراع حادًا وخطيرًا ومؤلمًا، ويأخذ مسارات كثيرة لا ينتج عنها سوي الأزمات القاتلة للدولة،وكما هو الحال في الصراعات القبلية في غرب السودان(دارفور)، والتي تحولت لاحقًا إلى حركات مسلحة تطالب بالعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية وحق تقرير المصير.

بين السياسي والقبلي .. هياكل متداخلة

تعمقاً في قضية الحروب العشائرية، يحمل “جلال الدين محمد” بعض ممارسات النظام الحاكم السابق مسؤولية وجود حالات ثأرية بين العشائر من خلال اعتماده على عشائر معينة وتسليحها لمواجهة عشائر أخرى متمردة، مشيراً إلى أن إقليم دارفور على سبيل المثال يضم 115 قبيلة من أصل 570 قبيلة سودانية، وكما ينقسم سكان الإقليم بشكل عام إلى مجموعتين عرقيتين؛ أحدهما ذات أصول سامية عربية والأخرى ذات أصول حامية إفريقية

كما يرى “جلال الدين محمد” أن القبيلة بتعدد دلالاتها باتت تشكل تهديدًا للاستقرار السياسي لكثير من الدول لأنها تهدد بخلق كيانات سياسية جديدة وتؤدي إلى انقسامات أو تحالفات جديدة، وبعض هذه المجموعات التي تقوم على الانتماء القبلي بدأ بتقوية علاقاتها الداخلية مؤكدة وجودها، ومؤثرة في سياسيات الحكومات، وفي حالات محددة يكون وجود الحكومات مرتبطًا بالتوجهات السياسية لهذه المجموعات القبلية، كما نجدها في مناطق جبال النوبة في السودان، والأفارقة مقابل العرب في دارفور، كذلك القبائل في شرق السودان على سبيل المثال البجا الذين كان لهم كيان سياسي خاص في الانتخابات عدة مرات وحصلوا على 10 مقاعد في البرلمان في انتخابات 1965.

الصراعات القبلية عوامل تغذية وتأجيج

يشير الصحافي السوداني “إسماعيل محمد علي” إلى وجود عدة عوامل أسهمت في إعادة تغذية الصراعات القبلية في السودان عموماً من أهمها محاولة جهات مرتبطة بالنظام السابق لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وهزّ الثقة في التغيير الذي حدث في البلاد أو تلك التي لا تريد نجاحاً للمفاوضات بين الحكومة والحركات المسلحة التي بدأت قبل فترة في مدينة جوبا بجنوب السودان، بالإضافة إلى – اتساع حالة الغبن الاجتماعي والتقسيم القبلي لجهة القرب والبعد عن الحكومة، وانتشار المخدرات والبطالة وسط الشباب.

كما يضيف “علي” إلى تلك العوامل، تأثير الحدود المفتوحة للسودان مع كل من ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، ضعف سيطرة الدولة وعدم قدرتها على بسط سيادتها على كامل ترابها الوطني، إذ توجد بعض المناطق في أطراف البلاد ينعدم فيها أي وجود للدولة لا سيما الأجهزة الأمنية.

إلى جانب ذلك، يقول “علي”: “الآثار بعيدة المدى للنزاع والحروب التي ظلت ملازمة لتاريخ البلاد المعاصر، حيث (تعسكرت) مجتمعات بالكامل، بخاصة تلك التي تقع على تخوم مناطق النزاع”، مشيراً إلى أن أثر الميليشيات والمجموعات المسلحة التي أنشأها نظام البشير لمواجهة تمدد التمرد وعدم قدرته أو تراخيه في ضبط هذه الميليشيات، فضلاً عن ترك كميات كبيرة من الأسلحة بما في ذلك الأسلحة الثقيلة في أيدي عناصر تلك الميليشيات من دون رقابة أو سيطرة فعلية من الجهات الحكومية، وتدفق الأسلحة بكثافة إلى أيدي المواطنين، فضلاً عن شيوع تجارة الأسلحة وتحولها إلى نمط اقتصادي معيشي للكثيرين في تلك المجتمعات.

ويلفت “” أيضاً إلى ان عدم توفير الأمن وبسط حكم القانون في بعض مناطق البلاد، وهو ما يدفع المواطنين إلى توفير الأمن والحماية لأنفسهم وممتلكاتهم من دون الاعتماد على أجهزة الدولة، وربما لعدم الثقة في قدرة الدولة على توفير الحماية لهم، إلى جانب التآكل التدريجي في السلطة الأخلاقية للإدارات الأهلية، في ظل النظام السابق، وكذلك الزعامات التقليدية، التي كانت تتوافر على آليات كانت تحقق الردع المطلوب، يجري الخضوع لها واحترامها، وهو ما أدى لانهيار هذه المنظومة التقليدية جنباً إلى جنب مع انهيار سلطة الدولة.

في ذات السياق، يلفت “علي” إلى تسيس النظام السابق للقبيلة وربط الحقوق والمطالب الاقتصادية والسياسية المشروعة بالانتماءات الأوليّة للنظام، وتحويل الانتماءات التقليدية لرأسمال والاستقواء به في المجال السياسي، عجز الدولة عن ضمان تطبيق الاتفاقيات وحماية المصالحات القبلية التي تتم في فترات سابقة، حيث يتم الاتفاق بين أطراف النزاع على تدابير معينة، غالباً ما تشمل دفع ديات القتلى وإرجاع المنهوبات، ولكن لا يتم الالتزام حرفياً بتلك التدابير من قِبل أجهزة الدولة، مما يتسبب في تجدد النزاعات القبلية.

اقتصاد ينزف وحروب انتهت دون أن تنتهي آثارها

حصيلة الحروب والصدامات العشائرية والأهلية في السودان، لم تقتصر فقط على الجانب البشري فقط، وإنما حملت معها آثاراً اقتصادية كبيرة أصابت السودان بهزات وأزمات كبيرة وأفقدته الكثير من شريانات التغذية المالية، كما يقول المحلل الاقتصادي، “محمد أبو الذهب”، مشيراً إلى أن إحدى الحروب الأهلية والتي قامت على أساس عرقي، كانت كفيلة بأن يفقد السودان ثلاثة أرباع إنتاجه النفطي، في إشارة إلى حرب جنوب السودان وانفصال الأخيرة عن السودان.

ويلفت “أبو الذهب” إلى أن النفط تحديداً يعني بالنسبة للسودان واقتصادي الشريان الأكبر للناتج المحلي الإجمالي، بالإضافة إلى أنه كان يمثل الدخل الرئيسي للقطع الأجنبي في البلاد، مؤكداً أن انفصال جنوب السودان رسخ الحالة الهشة للاقتصادي السوداني، خاصة مع العقوبات الدولية التي كانت مفروضة في تلك الفترة

كما يلفت “أبو الذهب” إلى أنه على الرغم من وجود عدة قومات اقتصادية في السودان غير النفط، وأهمها الثروة الزراعية والحيوانية، إلا أن نسبة الفقر في السودان تصل إلى نحو ثلثي الشعب، موضحاً: “حالة الحروب العشائرية المستمرة وتعدد أقطابها وما يرافقها من عمليات قتل للماشية وإحراق للمزارع وتهجير أهدرت قسماً كبيراً من تلك الثروات وأحدثت في بعض المناطق أزمات غذائية وصلت أحياناً إلى شفا المجاعة.

يشار إلى أن المسح القومي للميزانية والأسر للعام 2014/2015 قدر أن 36.1 في المائة من سكان السودان لديهم مستويات من الإنفاق للفرد أقل من خط الفقر الوطني البالغ بين 1.90 دولارًا و 3.2 دولار أمريكي للشخص يوميًا.

أبرز الحروب والصدامات العرقية والأهلية في العصر الراهن

فيما يلي يستعرض مرصد مينا أبرز النزاعات الداخلية سواء بين العشائر والدولة السودانية أو بين عدة عشائر، والتي عاشها السودان منذ القرن العشرين وحتى الآن:

الحرب الأهلية السودانية الأولى:

تعرف باسم أنانيا أو تمرد أنانيا وهي صراع كان دائرا بين أعوام 1955 إلى 1972 بين الجزء الشمالي من السودان والجنوبي منه التي طالبت بمزيد من الحكم الذاتي الإقليمي، حيث يعتقد بأن ضحايا الحرب خلال 17 عاما من القتال أكثر من نصف مليون.

الحرب الأهلية السودانية الثانية

هي حرب أهلية بدأت في عام 1983، بدأت بعد 11 عاما من الحرب الأهلية السودانية الأولى بين أعوام 1955 إلى 1972، درات معظمها في الأجزاء الجنوبية من السودان أو في منطقة الحكم الذاتي الذي يعرف بجنوب السودان، وتعتبر إحدى أطول وأعنف الحروب في القرن وراح ضحيتها ما يقارب 1.9 مليون من المدنيين، ونزح أكثر من 4 ملايين منذ بدء الحرب.

يعد عدد الضحايا المدنيين لهذه الحرب أحد أعلى النسب في أي حرب منذ الحرب العالمية الثانية، انتهى الصراع رسميا مع توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام في كانون الثاني / يناير 2005 واقتسام السلطة والثروة بين حكومة رئيس السودان عمر البشير وبين قائد قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق.

الحرب في دارفور:

هي نزاع مسلح يجري في منطقة دارفور في السودان، اندلع في فبراير 2003 عندما بدأت مجموعتين متمردتين هما حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة بقتال الحكومة السودانية التي تتهم باضطهاد سكان دارفور من غير العرب.

أدت الحملة العسكرية إلى مقتل مئات الآلاف من المدنيين واتهم بسببها الرئيس السوداني عمر حسن البشير بارتكاب إبادة جماعية، جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية من قبل محكمة العدل الدولية.

الزريقات والمعاليا:

بدأت أحداثها عام 2015، بين قبيلتي الرزيقات والمعاليا، في معركة استخدمت فيها أسلحة ثقيلة متنوعة مثل صواريخ الكاتيوشا وقذائف “آر بي جاي”، حيث كانت معركة كاملة الدسم لم ينقصها على ما يبدو إلا استخدام الطائرات، بحسب ما يقوله الصحافي السوداني “ياسر محجوب الحسين”.

المساليت والعرب:

تدور أحداثها في مدينة الجنينة السودانية، وتشتد من وقت لآخر بين قبيلة المساليت الإفريقية وعشائر عربية، والتي تعود شرارتها إلى العام 2019، حيث بدأت المشكلة بشجار بين شباب من المساليت والعرب في نادي مشاهدة بالجنينة ليتطور الموقف  بعد مقتل ثلاثة من العرب، لتتحول القضية إلى مواجهات مسلحة لا تزال تندلع بين الحين والآخر، على الرغم من الإجراءات الأمنية.

Exit mobile version