الصحراويون المنضمون إلى جبهة “بوليساريو” في تندوف والمناطق الأخرى من الجزء الذي تسيطر عليه جبهة “بوليساريو”، مازالوا في الخيام بعد قرابة أربعة عقود من رحيلهم من المدن الخاضعة لسيطرة الحكومة المغربية، وبغض النظر عن عدالة قضيتهم أو عدمها، (وليس هذا موضوعنا) كانوا مصرين على عدم استبدال الخيمة بمنزل من طوب واسمنت، مع الأخذ بالاعتبار أن تكاليف الخيمة أعلى من تكاليف الطوب والاسمنت، فالخيمة تتآكل وتستبدل بخيمة، ومع كل خيمة تكلفة جديدة، وفي فلسفتهم هذه، حرص على حق العودة، وهي فلسفة ربما تفترق كثيرًا عن التجربة الفلسطينية، حيث بات المخيم في سوريا أو المخيم في لبنان، بديلاً عن الوطن الأم، بغض النظر عن رمزية المفتاح الذي يعلقه الفلسطيني في رقبته.
اليوم، أجزاء كبيرة من سوريا تتعرض للتهجير الممنهج، وللتغيير الديمغرافي عن عمد، والشراكة تجمع حكومة أردوغان مع نظام بشار الأسد، وفصائل من المعارضة مع ميليشيات السلطة، وسيضاف اليهما عدد من الجمعيات والمنظمات ، بينها تركية وغربية عاملة في شمال غربي سوريا.
ما يحدث اليوم هو بناء وحدات سكنية بديلة عن الخيام للنازحين من مختلف المناطق السورية، بحجة “لتكون هذه المنازل قادرة على حمايتهم من الظروف المناخية والعوامل الجوية كالحرارة والغبار في فصل الصيف، وبرد الشتاء، فضلاً عن تعرض الخيام في فصل الشتاء للغرق بسبب الأمطار وتشكل السيول ومعاناة النازحين جراء ذلك”.
على المستوى العاطفي، الأمر يستدعي التهليل لما يحدث، ولكن لو ايتعدنا عن استحقاقات القلب، فلابد من التحذير من مخاوف الوصول إلى التوطين داخل هذه المناطق، بما يحوّل المؤقت إلى دائم، والمخيم الى وطن بديل، في مناخات يغيب عنها أي أفق حل سياسي في سوريا، يضمن عودتهم قريباً.
النقاش اليوم يدور حول صلاحية هذه البيوت، أم عدم صلاحيتها، بما يحيل المسألة من مسألة (مصير مواطنية) إلى (مصير تعهدات) وهاهي الحوارات الدائرة تحكي عن “معايير لم تؤخذ بالحسبان من قبل الجهات المسؤولة عن بناء الوحدات السكنية”.
خلال هذا العام شيدت ثلاثة تجمعات سكنية، اثنان منها شمال إدلب؛ وهما تجمّع باريشا ويضم 320 وحدة سكنية، وتجمّع طورلاها 176 وحدة سكنية، وتجمّع أعزاز في ريف حلب الشمالي يضم 472 وحدة سكنية، وتضم مرافق عامة كالمسجد والمدرسة ونقطة طبية ومبنى إداري للتجمع، وتم إيواء 968 أسرة مهجرة من مناطق متفرقة في سوريا.
الرقم كبير ومدهش، فحصيلته تعني مدنًا، والأخطر أنها تأتي في مناخات قد تقود عاجلاً أم آجلاً إلى انجاز التقسيم بعد انجاز التهجير، ومن ثم تتحقق مقولة التغيير الديمغرافي، وهو التغيير الذي يقوده الايرانيون، ويواكبهم الأتراك، ولا يخسر معه الروسي، وهاهم الايرانيون قد وضعوا أياديهم على الجزء الأعظم من ريف دمشق، بعد أن فرضوا سطوتهم على الجزء الأعظم من الجيش، فيما امتلكوا أغلب متاجر “الحميدية” و ” البزورية” فحولوا السوق الى بارزار، ومن يزور “الحميدية” امتدادًا لضريح “رقية” سيشهد التغير في كل شيء.. في البضاعة والزبون والمزاج العام، وحتى في اللغة وقد باتت الفارسية، هي اللغة الثانية لتجار المنطقة وحوانيتها، هذا فضلاً عن أهازيج “اللطم” التي حلّت محل “شبّابة” عازف الحميدية..
الأتراك يلعبون على الشريط الحدودي استكمالاً لمشروع الضم، االذي يعني ضم ادلب ومداها الحيوي الى السيادة التركية، والايرانيون يشتغلون على الاستيطان في ريف دمشق وأسواق العاصمة، لتكون النتيجة:
ـ الاقتطاع التركي لشمال شرق سوريا، وضم ريف دمشق إلى “الدولة العلوية”، ومعهما سترتسم صورة سوريا االمقبلة.
الروس لن يتذمروا من الصيغة، فللروس ثلاثة أقدام، واحدة في تركيا، وثانية في طهران، وثالثة في أفواه النظام السوري وآل الأسد.
القصة ليست خيمة تدلف ماء في الشتاء. القصة أكبر من هذا وأخطر، إنها:
ـ إحداث أمر واقع، ومن بعده يتحول الأمر الواقع الى واقع مرحب به.
الفلسطيني وقد علّق المفتاح برقبته لم يعد إلى فلسطينه، وكذا حال السوري.
مجرد مفتاح لـ “لابوابة”.