
زاوية مينا
لن تهدا سوريا، ولن تغلق بوابة العنف والعنف المضاد قبل إنجاز أساس السلم الأهلي والذي يحمل عنواناً واحداً يتفرع لعناوين لاحقة، أما العنوان فهو:
ـ العدالة الانتقالية.
مصير العدالة الانتقالية في سوريا حتى اللحظة مازال معلّقاً في الفراغ، تماماً كحال العدالة نفسها في بلد ما يزال غارقاً في الدم والانقسام والخراب المؤسسي. حتى اللحظة، لم تبدأ سوريا أي مسار حقيقي للعدالة الانتقالية، بسبب استمرار الصراع، وتغوّل النظام، وغياب توافق سياسي داخلي أو دعم دولي جاد يمكن أن يُطلق عملية شاملة تشمل المحاسبة، كشف الحقيقة، جبر الضرر، والإصلاح المؤسسي، وهنا يأتي سؤال:
ـ لماذا؟
بالتبسيط الضروري، لـ :
ـ غياب الإرادة السياسية لدى من يسيطرون على الأرض.
ـ تعدد الفاعلين والجهات المسيطرة، مما يجعل من الصعب توحيد الرواية أو المساءلة.
ـ ضعف المؤسسات القضائية المستقلة.
ـ تدخلات القوى الدولية التي غالباً ما تسعى لحلول سياسية فوق العدالة.
ـ الخوف من المساءلة من قبل أطراف متورطة في الانتهاكات، ما يخلق مقاومة لأي انتقال عادل.
كل ذلك يتزامن مع التغافل عن التجارب الأممية التي اشتغلت على العدالة الانتقالية، وقد أغلقت بوابة الانتقام والثأر وأخذ الحق باليد، وهو الحق الذي لا ينتج إلاّ خراباً لاحقاً، وهذه تجربة جنوب أفريقيا تعطينا المثال، لأنها أنجزت واحدة من أنجح تجارب العدالة الانتقالية بعد سقوط نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد). رغم أن السياق مختلف عن سوريا، إلا أن مبادئ التجربة تصلح كمصدر إلهام، فكيف كان حالها؟
ابتدأت بلجنة الحقيقة والمصالحة بقيادة ديزموند توتو، والتي استمعت لآلاف الشهادات من الضحايا والجناة وكان هذا أولاً، ومن بعدها تركزت جهودها بالتركيز على الاعتراف بالحقيقة قبل العقاب، لإعطاء الأولوية للسلم الأهلي وإعادة بناء النسيج الاجتماعي، ومن ثم قامت بدمج الضحايا في العملية السياسية وفتح المجال أمام التوثيق الرسمي للفظائع، وكله أدى إلى ربط العدالة بالإصلاح المؤسسي، خصوصاً في قطاعات الأمن والقضاء والتعليم، فكانت النتائج أن تصالحت جنوب افريقيا مع نفسها وطوت صفحة الظلام الفائتة، فما الذي بوسع سوريا أن تستهدي به من تلك التجربة؟
ـ تأسيس آلية وطنية مستقلة للحقيقة والمصالحة.
-ضمان مشاركة الضحايا من جميع الأطراف.
ـ دعم دولي طويل الأمد يضمن الحياد والشفافية.
ـ البدء من القاعدة، لا من فوق، أي الاهتمام بضحايا القرى والمناطق المنسية قبل السياسيين.
ـ التوثيق أولًا دون معرفة الحقيقة، لا معنى لأي مصالحة.
كلها ممكنات في الحالة السورية، وعلى صعوبة تحقيق هذه الممكنات فما لابد منه لاغنى عنه، ودونها ستبقى الجراح السورية مفتوحة وفي طريقها إلى الغرغرينا، أما ما يحدث اليوم، من سياسات الانتقام وأخذ الحقوق باليد فلم ينتج سوى احتمالات تشظي الدولة، بما لايبقي على دولة، ليأخذا الناس إلى الزواريب، وهيمنة الفصائل وفراغ القصر العدلي لحساب ملاءة المقابر.
كل ما يمكن تأجيله يمكن تأجيله، أما “العدالة الإنتقالية” فلتأجيلها عنوان واحد:
ـ الغرغرينا.