لايبحث اللبنانيون عن “الغاز”، بل يبحثون عن “الوعد”، ولنقل عن “الرجاء”، فكل الفضاءات مغلقة في وجوههم:
“الجمهورية” باتت زواريب طوائف، و “البرلمان”، بات “ورشة تكاذب”، و “الودائع” طارت وقد لاتعود إلى الهبوط ثانية، والخبز والإنارة والمدارس والمشافي برسم الغيب، ولم يتبق للبنان من شخصيات وازنة من حجم كمال جنبلاط أو فؤاد شهاب، أو حتى الرئيس سركيس لينتشل البلد من “هواة السياسة” وسياسيو “الشنطة”.
بقي وعد الغاز، أما عن متى؟ وكيف؟ وكم؟ فهذا مالايسأل عنه اللبنانيون، وكل مايشغلهم هو وعد أن يتحولوا إلى دولة “غازيّة” قد يتاح لها مدّ الجسور مع تمويلات دولية وبعض الثقة باقتصادها.
ترسيم الحدود وصل نهاياته، وبات في القطاف، والمختلف عليه وفق مايتسرب من معلوملات إعلامية لايعدو تفاصيل متعلقة بـ “صياغة” الاتفاق لا بجوهره، أي بـ “اللغة” لا بالمبادئ، والمعرقلون هذه المرّة لامن الطرف اللبناني بل من نتنياهو االإسرائيلي الذي يلعب اليوم مالعبه حسن نصر بالأمس، وهو عرض القوّة في لحظة تستلزم الدبلوماسية، وهاهي الحكاية مجمل الحكاية تتعلق بـ “من سينزله عن الشجرة” تمامًا كما حال نصر الله الذي تسلقها وهو الأحوج لمن ينزله عنها.
الأمريكان والأوروبيون جاهزون لمدّ سلالمهم لينزلوا كليهما عن الشجرة، وهذا لايعني أن خطاب الحرب قد بات في الأدراج فتوجيهات وزير الدفاع، بني غانتس، للجيش الإسرائيلي مازالت تحث على الاستعداد لسيناريوهات تصعيد في الشمال فيما يقدر الجيش الإسرائيلي بأن هناك احتمالية “متوسطة حتى عالية” للحرب، ثم لايلبث أن يؤكد احتمالية منخفضة لنشوبها.
لا يرى جهاز الأمن الإسرائيلي أي أخطار أمنية في الاتفاق نفسه، وهم يعتقدون أن ترسيم الحدود البحرية الجديدة، 5 كم باتجاه الغرب حسب الخط 1 (خط الطوافات)، وبعد ذلك النزول جنوباً وغرباً في خط 23، لا يعرض المصالح الأمنية لإسرائيل للخطر. يقوم سلاح البحرية بدوريات حسب الحاجة في خط عرض 1، وفي حالة وجود حاجة أمنية ملحة يتم إرسال قطع بحرية أيضاً إلى الشمال من هناك. الاتفاق لا يضر بحرية النشاط البحري للجيش الإسرائيلي في المنطقة. ممثلو الجيش الذين شاركوا في النقاشات يوم الخميس، قالوا بأن الاتفاق -حسب رأي الجيش- “جيد جداً من ناحية أمنية”.
“هاآرتس” التي تعلم ماتحت فروات رؤوس الإسرائيليين، تكتب قائلة بأن الشركة الفرنسية “توتال” صاحبة الامتياز في الحقل اللبناني “قانا” ستعوض إسرائيل بـ 17 في المئة من مداخيل الغاز من الحقل. لم تبدأ بعد مرحلة الحفر في قانا، ومن غير الواضح كم من الغاز سيكون موجوداً فيه في العملية التي يتوقع أن تستمر لبضع سنوات. على أي حال، فقدان المداخيل المتوقعة لإسرائيل لا تعتبر عالية، وجهاز الأمن يقدرها بالفائدة المتوقعة حسب رأيه وباحتمالية عالية، التي تتمثل باستقرار الوضع الأمني أمام لبنان. الضرر الاقتصادي لإسرائيل نتيجة حرب مستقبلية مع “حزب الله” حتى لو استمرت بضعة أيام، قد يكون كبيراً بدرجة لا تقدر، ولا نريد التحدث عن الخسائر المتوقعة في الأرواح.
الإدارة الأمريكية تستخدم مؤخراً ضغطاً شديداً على حكومة لبنان للتوقيع على الاتفاق. يوم الخميس الفائت، نقلت بيروت للولايات المتحدة عدة تحفظات على الاتفاق المقترح. ولكن لدى واشنطن انطباع بأن الفجوات بين الطرفين غير كبيرة ويمكن جسرها. تشارك فرنسا أيضاً في جهود الوساطة في محاولة للتوصل إلى توقيع سريع. مع ذلك، نشأت مشكلة أيضاً في الجانب الإسرائيلي على خلفية الخلاف السياسي، والتحفظات داخل الحكومة واحتمالية أن تتدخل المحكمة العليا عقب الالتماسات التي قدمت، وسيكون مطلوباً القيام بإجراءات أخرى مثل التصويت على المصادقة على الاتفاق في الكنيست.
ينتهي الجدول الزمني للتوقيع على الاتفاق في القريب في نهاية الشهر على خلفية انتهاء فترة ولاية الرئيس اللبناني ميشيل عون والانتخابات في إسرائيل في 1 تشرين الثاني. وإذا لم يتم التوقيع على الاتفاق، فإن الجيش الإسرائيلي يعتقد أنه محظور تأجيل البدء في استخراج الغاز من حقل كاريش (الذي يبقيه الاتفاق كله في الجانب الإسرائيلي)، هذا بذريعة أن الأمر سيعتبر تنازلاً إزاء تهديدات “حزب الله”، وسيضر بقدرة الردع أمام هذه المنظمة. في هذه الحالة، ربما يختار “حزب الله” الرد بعمليات عسكرية مثلما في المرات التي أطلق فيها طائرات بدون طيار، أربع طائرات، في بداية تموز. الجيش الإسرائيلي أسقط جميع الطائرات المسيرة.
تشعر إسرائيل بأن حسن نصر الله لم يقرر بعد كيف سيتصرف في حالة بدأت الحفريات في كاريش قبل التوقيع على الاتفاق. يقدر الجيش بأن لا شهية لنصر الله في الحرب الآن، وأنه يدرك الوضع الاقتصادي والسياسي الصعب في لبنان. مع ذلك، يدرك الجيش حقيقة أن جزءاً كبيراً من الحروب والعمليات في العقدين الأخيرين -حرب لبنان الثانية والعمليات الإسرائيلية في قطاع غزة- لم يندلع حسب خطة مسبقة، بل عقب تصعيد ما تم فقدان السيطرة عليه. على هذه الخلفية، تم في الأشهر الأخيرة تعزيز الدفاع على الحدود الشمالية وحول مواقع الغاز في البحر المتوسط واستكملت الخطط العملياتية لهجوم إسرائيلي مضاد في لبنان رداً على عملية محتملة لـ”حزب الله”.
الأمور وفق ماتقوله هاآرتس سائرة، غير أن الـ “السائرة” هذه قد يعرقلها الوقت.
نعم الوقت، فلبنان حتى اليوم لم يتفق على رئيس، والاتفاق يتطلب توقيع رئيس، ولبنان اليوم لم يتوافق على وزارة، ووزارة تسيير الأعمال ليست وزارة، ولبنان اليوم يبحث عن التوافق في الزمن الضائع، والزمن الضائع في هذا الزمن اللبناني يعني ضياع لبنان.
عندها ستكون النتائج أعظم.
ـ اللبنانيون يصرخون “الله يجيرنا من الأعظم”.
يعنون الحرب بطبيعة الحال.