غادر يوم الجمعة الماضي الموفد الفرنسي دوريل لبنان الى باريس بعد يومين ونيّف من اللقاءات والمحادثات مع قادة شعوب لبنان وطوائفه الذين اعترف رئيسه إيمانويل ماكرون بكونهم أصحاب القرار الفعلي والنهائي فيه في زيارتيه لبيروت بعد انفجار مرفئها أو تفجيره.
مع كل يوم جديد، يؤكد لبنان أنه عاجز عن تأليف حكومته، ومع كل يوم جديد يؤكد (الجميع) على المبادرة الفرنسية، بجوهرها الذي هو ” حكومة لبنانية تقود عملية الإصلاح على معظم الصعد وتفتح الباب أمام بدء صندوق النقد الدولي والدول والمقتدرة التي تتولى عملياً تقديم الدعم للدول المتعثرة الإعداد لمؤتمر دعم للبنان تتولى باريس قيادته”.
مع كل يوم جديد يتيقن اللبنانيون أن زعاماتهم لم “تضع العقل في رؤوسها”، رغم أن سقفها قد انخفض كثيراً عن ما كان عليه يوم بادر ماكرون بكل ثقة قبل أشهر الى التحرّك.
انخفض سقف الحكومة من “عقد وطني” جديد الى الدعوى الى حكومة “توافق وطني” التي تعني للبنانيين “حكومة وحدة وطنية” ما يعني اعادة العودة الى الصيغة السابقة التي خربت ودمرت وانهكت البلد وحوّلته إلى متسوّل طحين ودواء ومبيت.
مع زيارة دوريل موفد ماكرون تأكّد اللبنانيون أن سقف الدور الفرنسي في لبنان يزداد انخفاضاً. فهي صارت مهتمة بتأليف حكومة لبنانية سواء كانت مطابقة للمواصفة التي وضعها كتابةً ماكرون أو غير مطابقة لها، رغم استمرار رفع شعارات “حكومة المهمة والوزراء الاختصاصيين والمستقلين” والدليل على ذلك التخلّي عملياً عن الحكومة الاختصاصية والمستقلة والاعتراف النهائي بحكم قادة لبنان وطوائفه ومذاهبه بل شعوبه الذي قدّمه سيّد قصر الإليزيه في قصر الصنوبر وهو مقر إقامة سفيره في بيروت، بل الاعتراف لكل منهم بأن يتمثل في الحكومة وإن من دون بطاقة انتماء حزبي وسياسي رسمية، وبأن من حقّهم تكرار أسلوب التأليف الذي كرّس الانقسام الوطني، وعمّم ثقافة الفساد في العمل السياسي، وعمّق الشراكة الفعلية ليس في السلطة فقط بل ليس في السلطة وفي تأمين مصالح الناس بل في تقاسم المكاسب غير الشرعية. كما أبقى لهؤلاء القادة حرية التقاتل العلني دفاعاً عن “الدين والمذهب والطائفة” كي يبقى كلٌ منهم “قابضاً” على جماعته، وكي لا ينقطع رزقهم السياسي وغير السياسي.
اللبنانيون اليوم باتوا يتوقعون المزيد من الانهيار، حتى أنك بتّ تسمع كلامًا ربما كان من المحرّمات، ومن هذا الكلام “ليت إسرائيل تحل المشكلة” ليتها هذه ربما ناتجة عن سطوة حزب الله وحركة امل، الحركتان اللتان باتتا استعمارًا فعليًا للبنان، غير أن الذاهبين إلى ليت، يدركون بما لايقبل الشك، بأن حربًا اسرئيلية على لبنان، لن تجرف حزب الله ولا حركة امل ، بل العكس ربما تشد من عصب أنصارهما، وتمنحهما قوة اضافية، أقله بأن أية ضربة لحزب الله لن يكون لها أي معنى مادامت طهران هي ملجأه وحاويته ومرضعته، ومادامت الضربة ستوجه الى الوكيل لا الى الأصيل، ومن هذا المنطلق ينقلون “ليت” هذه إلى ليت الولايات المتحدة توجه ضربة لطهران، ويراهنون على ماتبقى من أيام للرئيس ترامب لينهي عهده بمأثرة الضربة هذه، فيما جميع القراءات تشير إلى أن الرئيس ترامب منشغل بلعب الغولف أكثر من انشغاله برسم لحظة تاريخية ترفعه الى مصاف الرؤوساء الذين تركوا ما لاينسنى للعالم كما حال جورج بوش والعراق، على سبيل المثال، وعند هذا المفترق يبتلع اللبنانيون الـ “ليت”، ويعودون للاستسلام للأمر الواقع الذي لابد وينتقل الى أمر واقع جديد أشد توحشًا من الامر الواقع القديم، فالوزارة حتى اللحظة لم تتشكل، واللعبة مازالت لعبة تضييع الوقت ما بين بيت الوسط والقصر الجمهوري، فيما المبادرة الفرنسية وقد باتت في الثلاجة، لم ينقصها سوى اعلان نعوتها، لينتهي آخر أمل للبنان للخروج من وحل اللحظة القاتلة.
المبادرة الفرنسية قامت بما عليها لكن اللبنانيين لم يقوموا بما عليهم فغشّوها وأحرجوها. وليس سهلاً عليها الاعتراف بالفشل رغم أنها تدرك اقترابها منه، ولذلك فإنها تحاول تلافيه. لكنه يبقى فشلاً سواء “ألّفت” حكومة لبنانية جديدة أو عجزت عن ذلك. والطريقة التي ستخرج بها نفسها من هذه الورطة الماكرونية هي، بعد تدني مستوى الموفدين والاتصالات، الاحجام عن التدخل وعدم بذل الجهود التي وعدت بها لعقد مؤتمر دعم للبنان، ولإعادة إحياء تعهدات “مؤتمر سيدر” ولاستئناف “الضغط” على المؤسسات الدولية ومنها “صندوق النقد” لدخول معترك مساعدة بلاد الأرز.
حالياً (وهذا كلام لسركيس نعوم) الرئيس سعد الحريري والوزير جبران باسيل في أثناء زيارته للأخير. قيل أنه هو من طلب رقم الأول وأعطى الهاتف للثاني فكانت مكالمة وجيزة يُفترض أن يتبعها لقاء فكلام وبحث ثم عودة شراكة حكومية وغير حكومية أو استمرار انقطاعها مدة قد تطول وقد تقصر. في أي حال تفيد معلومات عدد من المتابعين اللبنانيين أن الحريري الذي كان “شدّد” شروطه بعد إعلان أميركا فرض عقوبات على باسيل على الرئيس عون وصهره وولي عهده باسيل. وعزوا ذلك الى عدم رغبته في مواجهة أميركا وربما الى اعتقاده أنها حزمت أمرها ولن تتركه “معلّقاً” في منتصف البئر كما هي عادتها معظم الأحيان. من هنا إصراره على عدم التحاور مع باسيل واعتبار عمّه الرئيس محاوِراً عنه، وعلى تعيين وزراءٍ مسيحيين ومسلمين سنّة ودروز وربما أرمن وعلى عودته الى المداورة في الحقائب كلّها. لكن هؤلاء المتابعين يؤكدون أن الحريري عاد عن ذلك كله وصار مستعداً للتعاون أولاً مع “الثنائية الشيعية” ووفق شروطها، وهو بذلك يؤكد موقفاً كان أبلغه إليها. وصار مستعداً أيضاً لأن يتوافق مع عون على كل الأمور وكذلك لأن يجتمع مع الوزير باسيل ويتفاهم معه على طلباته واحتمال تلبيته لها فالبلاد صارت في أمسّ الحاجة الى حكومة. والثنائية ولا سيما “حزب الله” صاحب الكلمة الأولى وربما الأخيرة في البلاد صار مضطراً الى حماية باسيل والدفاع عنه وعن مصالحه وعن استمرار التحالف مع تياره رغم الخلافات المتنوّعة التي نشأت بينهما، بعدما استهدفته أميركا بعقوبات وبعدما ردّ عليها بطريقة غير مألوفة عند غالبية سياسيي لبنان. والحريري لا يبدو جاهزاً لاستمراره في “المنتعة” أو قادراً على التخلّي عن التكليف وتالياً عن العمل السياسي. لذلك فإن حكومةً قد تُبصر النور في وقت غير بعيد.
سركيس نعوم يتساءل:
ـ هل هذا الاستنتاج صحيح؟
ونتساءل معه.