مرصد مينا
مطلع الثمانينات، رفع حافظ الأسد قصره فوق قاسيون، ليطل على دمشق بجهاتها الأربع، واستعان لإعماره بالمهندس الياباني “كنزو تانغه” الحريص على رسم دهاليز بالغة التعقيد وغرف ربما تصلح لمواجهة قنبلة نووية، وفق ذاك الزمن زادت تكاليف إعمار القصر عن مليار دولار، وقد عزز قصره بمجموع من فرق عسكرية باتت تعرف اليوم بـ “الحرس الجمهوري”، أشدّ عساكر النظام دموية وعنفاً.
كان القصر الطافح بالأسرار والخبايا يعني فيما يعنيه أن الأسد الراحل يجهّز لميراث الطاغية الوليد، دون أن يمنعه ذلك من الإطلالة على “خرابات” حزّمت المدينة، وهبها لمناصريه في لعبة “المعازل الطائفية” التي لا تعني سوى تقسيم العاصمة ما بين طبقة وسطى، وطبقة تحنّ لطرق بوابات المدينة لاحتلال المدينة، ونزع المدنية عنها، وهو ما استثمر به لاحقاً حتى كادت العشوائيات أن تشكّل الحزام الأمني الذي يحميه من الحركات المدينية الرافضة لحكمه.
مع قصره وعشوائياته قسّم سوريا إلى سوريتين:
ـ سوريا الأسد.
وسوريا مجموع السكّان الذين ورثوا حضارات ومدن، ودولة ربما يصلح تمثيلها بالمسجد الاموي، وهو المسجد الذي اشتغل لا على اجتثاث من قبله، بل كان المسجد الذي بني بالشراكة مع من سبق، حتى كاد أن يجمع تاريخ الإنسان العقائدي بدءاً من الوثنية مروراً بكل أفكار التاريخ ولهذا كان ليوحنا المعمدان مكانه ومكانته في المسجد العظيم إياه.
كل ما فعله الأسد هو الاشتغال على التقسيم ومن ثم رفع شعار “حامي الأقليات”، وبحمايته للأقليات اجتث أبرز شخصيات ما يسمى بالأقليات فأمعن بالتنكيل بزعاماتها ومن مجموع طوائف سوريا، وخص بالاقتلاع شخصيات وطنية “درزية” كان لها مكانتها في جيش البلاد ومن بينهم فهد الشاعر وحمد عبيد وسواهما من الشخصيات العسكرية ليلتفت لاحقاً إلى شخصيات مدنية كان لها وزنها في الحياة السياسية السورية وفي المنطقة بوجه أعم وصولاً إلى لبنان يوم اطلق مخابراته الجوية لاغتيال كمال جنبلاط، وما حدث لدروز سوريا حدث لعلوييها واسماعيلييها ومسيحييها، مع مجازر لن تمحى من ذاكرة التاريخ يوم اشتغل على إبادة السنّة، ولن تستثني الذاكرة ذاك الاغتيال الفظيع لمحمد الفاضل، العلوي، الفقيه القانوني، وأبرز من اشتغل على الحقوق بتاريخ سوريا، وكل هذا تحت مسمى “حامي الأقليات”، في بلد لم تُهن الأكثرية فيه أقلية، بل لم يستحضر مصطلح “الأقلية” إلاّ مع استيلاء الأسد على الحكم، والذين يعرفون تاريخ سوريا ما بعد الاستقلال، لن يصابوا بالدهشة إن علموا بأن “فارس الخوري” المسيحي كان رئيساً لوزراء سوريا بعد أن اشتغل وزيراً لأوقاف سوريا، سوريا التي صاغت نفسها ما بعد الاستقلال كما حال المسجد الأموي، لتكون حضارة تحتضن حضارة وتبني عليها لا على إزالتها، ومع التحولات التي أحدثها حافظ الأسد، أحدث ما يشبه قصره.. دهاليز، وغرف سرية، وفوبيا الآخر، مع البذخ السفيه الذي يطل على “العشوائيات” و ” الخرابات” فكان قصره هو التعبير الأدق عن صورته.
قصراً يجثو بكلكله على دمشق، دمشق المسجد الاموي، ودمشق بيت البحرة وأرض الديار والأناقة والعائلة، فاحتل العاصمة، وطيفها، وقد أحاطها بكل ما يقتضيه البؤس لمسخ هويتها.
اليوم تسقط مقولة الأقليات، ويسقط معها من يدّعي حمايتها، فهاهي السويداء التي لم يتجاوز عدد سكانها اثنان بالمئة من مجمل سكّان سوريا، تُستَقبّل في كل بيوت سوريا، تُستَقبّل بالزغاريد والترحاب كما لو الابنة المدللة.
اليوم تسقط بذاءة مصطلح “حامي الأقليات” لحساب:
ـ سوريا واحد واحد
الشعب السوري واحد.
كل ما تبقى للأسد الوراث، ما تركه الأب من ميراث “الدهليز” و “الغرف المضادة للسلاح النووي”.. لم يترك له غرفة واحدة تحميه من “هتافات السوريين وأناشيدهم”.
الثورة الثانية قادمة وما من اقلية في سوريا سوى:
ـ زعران الأسد وعصاباته وبعض الكبتاغون.