نبيل الملحم
يبدو أن الأمريكان، والمقصود الإدارة، بدأوا بإعادة النظر فيما راهنوا عليه، ما يدعوهم لاستبدال صيغة “النصر الكامل لإسرائيل” إلى نصف نصر، ولابد أن هذا التحوّل مرتبط بما يعني أن النصر العسكري لا يتحقق بلا مُنجّز سياسي يوازيه، وما يحدث حتى اللحظة أن الآلة العسكرية الإسرائيلية انتصرت بالترويع وسياسات الإبادة والخراب، فيما لن يتأتّى لها نصر سياسي بموازاة نصرها العسكري إذا أفضت نتائج الحرب إليه.
لن يحدث الإنجاز السياسي، لأن ما سيعقب الأعمال العسكرية ليس “سلاماً” بل لابد وسيحفّز ثانية نحو حرب قادمة، فإذا ما تمّ اجتثاث “حماس” فستكون الأيام المقبلة استيلاداً لـ “حماسات” إن صحت التسمية والحماسات هذه ستأتي من قلب الدمار وذاكرة الدمار والوجع المصاحب لما بعد الدمار.
الأمريكان اليوم منشغلين بما بعد “حماس” فالسلطة الفلسطينية في رام الله مكبّلة بالسلاسل وفاقدة للأهلية الشعبية، وهذا حتماً سيفتح الطريق واسعاً لولادة فصائل فلسطينية ستتجاوز “حماس” في راديكاليتها، وهذا ما لا يدركه اليمين الإسرائيلي الذي يشتغل على القتل وحده، ووحده القتل لا يصنع انتصاراً والدلائل بالغة الحضور وعبر كل حرب شهدها تاريخ الإنسان.
بنيامين نتنياهو محكوم بوضعه الشخصي وما آل إليه من انحطاط بمواجهة الرأي العام الإسرائيلي، ومعسكر المتدينين وقد انتظم في الخدمة العسكرية مع حرب غزة، يشتغل على دفع نتنياهو نحو الصعود العسكري مقابل الانهيار السياسي، فيما الشارع الإسرائيلي عرف موجة ربما تكون طازجة، او مبنية على تراكم لم يكن يُحسَب له حساباً، انتفض عبر تظاهرات شهدتها تل أبيب، ومعها بعث بكل “بصاقه” على المؤسسة العسكرية الإسرائيلية كما “بصاقه” في وجوه الحاخامات، ما سيسمح بانقسام إسرائيلي حاد لابد ويقود إسرائيل إلى الانقسام اللاحق.. انقسام سيكون لقوى السلام مساحتها فيه، وسيكون اكثر جدوى وفعالية إن تلاقى مع حركة سلام عربية، عرف ناسها حجم الخذلان الذي تسبب به كل من الجيوش كما التيارات الدينية، وكليهما لم يفوزا بحرب عسكرية، ولم يزرعا ما يمكن حصاده على المستوى السياسي، ما يعني أن “ما قبل غزة” سيكون مختلفاً عما بعدها والمرجّح أن تنمو قوى السلام بمواجهة الأصوليات مع أثمان باهضة / مرعبة، و بالغة البشاعة وقد دفعها ودُفِع إليها الغزاويون .
ستكون مرحلة جديدة، هذا واحد من احتمالات، سوى ذلك لن يكون لهذه الحرب أيّ معنى سوى ما تحمله المقابر من معاني، وستكون كذلك على الجانبين :
ـ الإسرائيلي والفلسطيني معاً.
ضجيج الحرب اليوم قد يشكّل جداراً صلباً يُخفي وراءه الأصوات المنددة بالحرب، غير أن الحرب التي دمّرت جدران البيوت، قد تفتح فضاءات جديدة لكلام آخر، كلام يقول:
ـ ما من حرب بعد اليوم.
قد يحدث ذلك.
هي معجزة حقاً، ولكن ما الذي يمنع من هطول المعجزات؟