نبيل الملحم
هو واحد من أبطال استقلال بلاده، محارب، وأكثر عنفوانًا وكبرياء من زعامات مرصّعة بالذهب، يوم اندلعت احتجاجات الطلبة الفرنسيين عام 1968، لم يُهزم، لكنه هزم خصومه بأن يَهزم نفسه، ولهذا من حق الفرنسيين أن يقولوا:
ـ نحن ابناء شارل ديغول.
تمامًا كما يقولون نحن أبناء فيكتور هيغو، أو أبناء إيميل زولا.
رجل لم يعرف الراحة إن لم ترتح بلاده، وهو مالا يحدث لنا.. أقول لنا، كما لو أننا أمّة إن لم تجمعها الحقول لابد وتجمعها الأرصفة، وما لا يحدث لنا، أن ليس لنا “ديغولنا”، لنا زعامات تمجّد سحلنا لتُسحل، وكان لنا من لحظتنا مثالين، اولهما “القذافي” وقد انتهى بـ “السحل”، وثانيهما “صدّام” وانتهى إلى الأنشوطة بعد أن حوّل العراق إلى هباء بل إلى جثة بين الأمم.
تلك هي امثلتنا، ولهذا لسنا أبناءهم، كل ما تبقّى لنا منهم “بعض” من قبورنا التي نبحث فيها عن جماجمنا. فـ:
ـ نحن لسنا منهم ولا لهم.
كل ما لنا هو أن نتذكّر “بعض” من التاريخ، يوم نقل الرحّالة القرشي عن امبراطور الصين في وصفه للعراق بعد ثورة الزنج” أن الملوك خمسة، أوسعهم ملكًا الذي يمتلك العراق لأنه في وسط الدنيا”، وهاهي العراق كما لو لم يتبق منها نخلاً أو نهرًا، أو شاعرًا نحيلاً يدعى بدر شاكر السياب، لنقول:
ـ نحن ابناء السياب.
فيما تتدحرج ضفتها الأخرى وأعني سوريا، من اباطرة الفساد إلى امبراطوريات الدم، وقد انشغلت بزفاف البحر لغرقاها دون أن يتبقّى من مشمشها غرسة، ولا من نهرها قطرة ماء، وكل ما تبقّى منها مملكة جحيم يقودها رجل يدعى “طبيبًا”، مهنته تقتضي أن يكرّس نفسه لإنقاذ الحياة الإنسانية لا أن يتفرغ لإبادة الناس، ليسجّل المثال الثاني، مستنسخًا، وبالنسخة الأشد عتمة ذاك الصربي المدعو رادوفان كاراديتش، وقد شكّل علامة فارقة بالنسبة للصرب البوسنيين وقد اشتغل بإبادتهم، بفارق أن كاراديتش كان طبيبًا و “شاعرًا”.. هو شاعر ظلامي ومنحط، ثيمته العنف، أي نعم، ولكن له من القصائد ما يشي بـ “بعض التوق” و “بعض الندم”، دون ان يتسلّح بضحكة تنقله إلى “محض قاتل”، وقد حوّل بلاده إلى دروع بشرية، ناسها مجرد رهائن لـ “حكمته”، وهو يبعثر الكلام حتى تخال أنه لم ينتقل بعد إلى مرحلة الكائن الناطق وقد تزوّد باللغة.. اللغة حتى ولو بحدود النطق البائس، النطق المشبع بالبلاهة، الخالي حتى من ثيمات الموت والسكاكين والرصاص، وهي أدواته في الحكم ووسائل بقائه.
سيكون لنا المثال الثاني عن كاراديتش، بفارق أن لـ “كاراديتش”، لغة عندها القدرة لتغوي، وتذكّر، وتبهر، وتدمّر، وكل ما نريده منه، أن يكون له “بعض من كاراديتش”، لا كلّ من “شارل ديغول”، ونظن اننا بالغو التواضع فيما يتطلبه “بعض” البقاء على قيد حياتنا.
لانطلب منه الرحيل، ولا الاستقالة، ولا الاعتذار، كل ما نطلبه أن يكون دكتاتورًا يليق به “اللقب”، ألم يكن اديب الشيشكلي دكتاتورًا؟
كان دكتاتورًا، ولكن ما أن بات سلاح جيشه بمواجهة شعبه حتى :
ـ استقال ورحل.
نريد “اديب الشيشكلي”، لنقول:
دكتاتورنا لم ينسنا أننا من بلاد كان لها “أبو العلاء المعري”، وهو القائل:
إن غاضَ بحرٌ مدّةً فلَطالمَا غَدَرَ الغديرُ
فلكٌ يدورُ بحكمَةٍ ولهُ بلا رَيْبٍ مُدِير
إنْ مَنّ مالِكُنا بِما نهوَى فمالِكُنا قدير.