ما بعد انتصار “الخمينية” في إيران، كان شاغل “الخميني” وقد بات “الولي الفقيه” هو احتكار الله، ليتحوّل معه “فقه قُم” إلى “فقه السلطان”، الأمر الذي انسحب على مجمل شيعة العالم، في التوافق كما في الرفض، فاحتكار الله، يعني سطوة الخميني على الأرض والسماء، وهو ماعانته بلدان عدة، أبرزها العراق ولبنان، وقد انشطر فيها الشيعة إلى شطرين في صراع مُتكَتم عليه، ينكشف ما بين منعطف وآخر، ليظهر ثم يغيب، وكان شيعة لبنان قد شهدوه في حرب “حقول التفاح” مابين حركة أمل وحزب الله، ليتم امتصاصه فيما بعد دون أن يفقد جذوره المرشحة في كل آن إلى الاحتراق، وربما مايحدث اليوم في العراق، يشي بملامح هذا الصراع الذي يحضر ليغيب مع احتمال إيقاده من جديد، وهو صراع قديم قابل ليتجدد، وكانت أبرز منعطفاته في خضم الصراع والجدل المحتدم بين الإمام شريعتمداري والخميني قبل اربعة عقود وجوهره حول مضمون الحكم في إيران، والمرجعية التي ينهل منها “الخميني” سلطته، بعد أن دمج بين ثنائية “الفقيه والسلطان”، ويومها صرح شريعتمداري بأنّ: “حكومة الشعب هي السلطة التي يقر بها الإسلام، والديكتاتورية تعيد البلاد إلى عهد النظام الطاغوتي السابق، وأنّ ولاية الفقيه تسلب الناس صلاحياتهم واختياراتهم، كما تناقض كل الأصول التي تعطي الناس حقّ الانتخاب، لذلك، لا بدّ من إصلاحه ورفع هذا الإشكال”.
آنذاك جرى اعتقال الإمام شريعتمداري، عام 1982، بتهمة تدبير انقلاب على الثورة، ووضع تحت الإقامة الجبرية، حتى مات بعدها بـ6 أعوام، إثر مرض ألمّ به، ودُفن ليلاً، في ظروف صعبة، حيث مُنع كلّ تلامذته من حضور جنازته، حسبما ذكر رضا الصدري في كتابه “في سجن ولاية الفقيه”.
ماحصل لاحقًا هو أن تمكّن الخميني من مأسسة الساحة الفقهية الحوزوية، وتأميم الصراع داخلها، عبر عمليات الإقصاء والضغط المتواصلين، لكلّ المعارضين والمخالفين له، حتى تلاشت الأسماء المهمة والمؤثرة، في المجالات الدينية والعلمية والفلسفية، حديثاً وقديماً، مثل عبدالكريم سروش، وأصبحت الحوزة مجرد صوت رسمي مؤيد للنظام.
يعدّ التيار الإخباري من التيارات المهمة في عالم التشيّع، كما يذكر السيد الصياد في كتابه “التيارات السياسية والدينية في إيران”، بل يمتد بجذوره إلى الأئمة المعصومين، وهو، حتى اللحظة الراهنة، يعدّ مظلة دينية للشيعة في إيران وخارجها، فهو بمثابة التيار الأم، الذي تجتمع وتتلاقى عنده كثير من الأفكار المشتركة، وذلك منذ أن تم إحياؤه في القرن الحادي عشر الهجري، على يد ملا محمد أمين الأسترابادي، إذ تبنت تلك المدرسة نبذ العمل السياسي، ورفض النظرية السياسية، بصورة تامة، وعدم خلط الدين والفقه بأي عمل حركي ونشاط مدني.
وقد رأى الإخباريون، أنّ العمل السياسي وإقامة الدولة والحكومة، وفق التأويل الخميني، عبر تأبيد نظرية ولاية الفقيه، يعد افتئاتاً على المعتقد الشيعي (الأصولي) والتقليدي، الذي يؤمن بعدم وجوب ذلك الأمر في ظل ما يعرف بـ “عصر الغيبة”، أي غياب الأئمة المعصومين، لذا، فإنّ أيّة حكومة تنشأ في ظلّ هذه الظروف تعدّ “اغتصاباً لحقّ وصلاحيات المعصوم”، بحسب ما تشير أدبياتهم.
اغتصاب الدنيا، واحتكار الآخرة، هو جوهر فكرة “ولاية الفقيه”، وهو الفقه الذي استقر بالقوة، واستمر بالعنف، ووطّد فيما وطّد نظامًا ثيوقراطيًا شديد التعسف في إيران، فيما أنتج أذرعًا له في العراق ولبنان، ماجعل قوى “ولاية الفقيه” هي القوى المسلّحة التي تأخذ كلا البلدين إلى سطوة الميليشيات وهو امر ووجه برفض شيعي أقلّه من أئمة شيعة كما حال السيد هاني فحص والإمام محمد على شمس الدين في لبنان، بموازاة شخصيات علمانية ويسارية شيعية لاقت حتفها بالاغتيال على يد حزب الله من مثل حسين مروة، ومهدي عامل، ومن آخر ضحاياه لقمان سليم.
مايحدث في العراق اليوم، هو رأس جبل الجليد، والمركب الشيعي لابد ويصطدم بالجبل إياه ليضع الشيعة في العراق امام واحد من خيارين:
ـ ذيول لإيران، أم “عراقيون”؟
المرئي من الصراع اليوم:
ـ متظاهرون يحلو لهم احتلال مسبح قصر الرئيس.. تحت الرماد ما هو أوسع من “مسبح قصر رئيس”، وتحت الرماد ما تحت الرماد.
بالوسع امتصاص اللحظة، ولكن من الصعب ابتلاع التاريخ.