بما تبقّى: من التفكك إلى الخلاص الوطني الممكن

نبيل الملحم

لم تكن الكارثة السورية نتيجة حرب أهلية فحسب، بل كانت تتويجاً لعقود من الانغلاق السياسي، واحتكار السلطة، وكمّ الأفواه، وتهميش الهويات، وحين انفجر الغضب السوري في وجه منظومة الأسد الأمنية الحاكمة، تحوّل تدريجيًا إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، ثم ما لبث أن صار مسرحًا لسيطرة قوى ما دون الدولة.. الأكثر ظلامية وراديكالية.

آخر تجليات هذه المأساة كانت حين استولت “هيئة تحرير الشام” على الحكم في سوريا، غافلة (عمداً) عن التشاركية السياسية، لتستأثر بالسلطة منفردة، وبموازاة هذا انتعاش وتمدّد خطابها التكفيري، لا نحو الأقليات فقط، بل حتى باتجاه مذاهب إسلامية لها عمقها التاريخي في البلاد.. لم يكن هذا سوى إيذان بانهيار تام في البنية الاجتماعية، وولادة طوفان دموي امتد من ريف اللاذقية إلى السويداء، مرورًا بكل الجراح القديمة التي ما فتئت تنفتح من جديد.

ما نعيشه اليوم ليس مجرد تشظي سياسي، بل تشقق في الجغرافيا والروح والانتماء، فالكرد في شمال شرق سوريا باتوا أقرب إلى مشروع قومي مستقل، والدروز في الجنوب يطورون سردياتهم الذاتية في مواجهة المركز، أما الساحل السوري، فقد بدأ يعبّر علنًا عن رغبته في الانفصال كخيار أضمن من الغرق في هذا العبث اللامركزي.. لقد صار التقسيم الموضوعي واقعًا، والوقت يمشي بنا مسرعًا نحو تقسيم دموي كامل للبلاد، تُرسم حدوده بالسلاح لا بالتفاوض، وبالدم لا بالخرائط.


إذًا، ما العمل؟ هل نستسلم لانهيار ما تبقى؟ أم نحاول خلق مشروع وطني جديد؟

أنا من الذين يعتقدون أن استعادة الدولة المركزية التقليدية باتت مستحيلة، لا لأننا لانرغب بها، بل لأن الشروط الموضوعية لنشوئها من جديد قد تم تدميرها بالكامل، فالثقة بين الأطراف لم تعد موجودة، و”العيش المشترك” لم يعد مجرد شعار، بل صار عبئًا نفسيًا وسياسيًا على الجميع.

لكن هذا لا يعني أن البديل الوحيد هو التقسيم، فلابد أن ثمة مخارج من المأزق السوري، دون المزيد من عبور البوابات الدامية، وهكذا، فلابد أن ثمة خيارات قد تكون اكثر عقلانية وإن بدت صعبة، وربما سيكون عنوان هذه الخيارات::

لامركزية سياسية وإدارية، لا بوصفها تقاسمًا طائفيًا للسلطة، بل كخيار عقلاني لإعادة بناء سوريا من الأسفل إلى الأعلى.

ملامح هذا المشروع:

ـ الاعتراف بالواقع دون القبول به، أي الإقرار بأن سوريا كما كانت لن تعود، لكن هذا لا يعني القبول بتفتيتها.. الاعتراف بالتنوع، لا بوصفه خطرًا، بل موردًا إنسانيًا لبناء دولة جديدة.

ـ الانتقال إلى صيغة “التحالف الفيدرالي المرن” وذلك عبر بناء أقاليم لامركزية ترتبط بدستور مشترك، وبسلطة اتحادية منزوعة الأسنان في الشؤون اليومية، لكنها تضمن السيادة والوحدة والخارجية والدفاع.

ـ ضمان الحقوق الثقافية والسياسية للمكونات كافة، الكرد، الدروز، العلويين، السنة، الإسماعيليين، المسيحيين… لا بوصفهم طوائف متقابلة، بل جماعات وطنية ذات مساهمة في صناعة سوريا الجديدة.

ـ إنشاء مجلس إنقاذ وطني مؤقت، يضم ممثلين عن جميع المكونات، مدنيين وعسكريين، ويشرف على العملية السياسية الانتقالية، شرطه الوحيد أن لا يكون طرفًا في الدم السوري، ولا متورطًا في مشاريع خارجية.

ـ كتابة دستور تعاقدي جديد، يقوم على “الحقوق لا الامتيازات”، و”اللامركزية لا التقسيم”، و”المواطنة لا المحاصصة”.

ـ نزع سلاح الميليشيات عبر اتفاقات مرحلية، بضمانات دولية، مقابل إشراكها السياسي في المرحلة الانتقالية، لا بصفتها المسلحة بل بصفتها التمثيلية المؤقتة.

ـ العدالة الانتقالية لا الانتقام، فالعفو مقابل الحقيقة والاعتراف، والتسويات على قاعدة حفظ كرامة الضحايا، لا طمسها.

إذا لم نبدأ الآن، فإن خريطة سوريا لن تُرسم بالحبر، بل بالدم، وإذا بقي الصمت هو ردّنا على خطاب التكفير والتفتيت، فإن الوطن لن يكون سوى ذكرى في كتب الجغرافيا.

ما نحتاجه اليوم ليس زعيمًا جديدًا، بل محاولة في رسم خريطة طريق لما تبقّى من سوريا اليوم.
سوريا، كما نعرفها، تموت كل يوم.
فلنكتب لها حياةً أخرى، ولو كانت مختلفة… لكنها على الأقل سوريا واحدة، بتعدديتها لا بانقسامها.

لم تكن سوريا استثناءً في محنتها، ثمة دول مثل البوسنة، العراق، لبنان، والسودان واجهت الانقسام، فاختارت، كلٌ بطريقتها، طريق اللامركزية والتعايش بدل وهم العودة إلى مركز غائب، فالوحدة القسرية أنتجت الانفجار، أما الوحدة التعاقدية، ففتحت باب النجاة.

اليوم، لا خلاص لسوريا في استعادة نموذج حكم انتهى، بل في إعادة تأسيسها كدولة لامركزية، تعترف بتعدّدها، وتُدار بالتوافق لا بالهيمنة.
هذا ليس حلًا مثاليًا، بل الحل الممكن لإنقاذ ما تبقى، ومنع ما هو آتٍ.. ماهو آت يقول:
ـ الدم السوري رخيص رخيص رخيص، وما تبقّى للنجاة : قليل قليل قليل.

Exit mobile version